7

106 14 30
                                    

انتهى اليومُ بِصعوبةٍ بالِغة. فغيرَ أنَّها لَمْ تنسجِم مع أي أحدٍ في فصلِها بسببِ نظرَتِهِم الغريبَةِ لها، تعرَّضت لِمُضايقاتٍ شتَّى. تذكَّرَتْ نظراتِهِم حينَ عرَّفتْ بنَفسِها.

"يافا" نَطَقتِ اسمها حينَ سألها الأُستاذ، وعمَّت الهمساتُ الفصلَ بسبب ذلكَ الاسمِ الغريب. يافا!

لَمْ يعلموا أيَ طُهرٍ تحويهِ يافا.

أظهروا الشَّفقةَ حينَ أخبَرَهُم الأستاذُ أنَّها أتت بسبب الحربِ في بِلادِها، وفُتِحَ موضوعٌ طويلٌ للنِّقاشِ بسببِ ذلك. حَكَتْ أعيُنُهم كمِّيةَ الرَّحمة الَّتي شعروا بِها لأجلِ تلكَ الفتاةِ المُحجَّبةِ المسكينة. هي شُرِّدَت وهَرَبَتْ من بلادِها.

كَرِهَت ذلكَ كُلَّه، كَرِهَت أن يشعُرَ أحدٌ بالشَّفقةِ نحوها.

كانَ اليومُ جحيماً بالنِّسبةِ لها.

يافا. تذوَّقَتْ أحرُفَ اسمِها مِراراً في طريقِ العودة. اختارَتهُ والِدتُها لأنَّ قِسماً كبيراً من روحِها يسكُنُ يافا. وكَمْ تحنُّ إلى يافا!

وصلتِ المنزل الصَّامِتَ على غيرِ العادة، لكنَّها لم تهتم وذَهبَتْ إلى غُرفَتِها. ألقَتْ بِثُقلِ يومِها وهمومِها على السَّريرِ ونامَتْ بِعمقٍ. أيُّ ذنبٍ ارتكبتهُ وهي في سنِّ الشَّبابِ ليُثقَلَ قلبُها بِهمٍّ كهذا؟

غُربة!

طالَ نومُها الهادئ، ثُمَّ استيقَظَت ليلاً. سَمِعَتْ صوتاً ينتَحِب. تسللت بِخفَّةٍ من غُرفَتِها للخارِج. زادَ صوتُ النَّحيب وانضمَّتْ إليهِ أصواتُ شهقاتٍ أيضاً.

"لماذا أَلقوا بِهِ إلى حتفِه؟" تساءَلَ صوتُ أُختِها المُنتَحِبِ ألماً. اتَّسعتْ عينا يافا وهي تدعو ألَّا يكونَ ما فكَّرت بِهِ صحيحاً.

"كانَ قويَّاً في حياتِهِ، ونحنُ سنظلُّ كذلكَ لأجله. ليرحمكَ اللهُ يا أيهم" قالَ صوتُ أبيها، هادِئاً بِحزنٍ لَمْ يستطِع إخفاءَهُ في نبرتِه.

لَم تتهاوى. لَم تسقُط. فَقَطْ ترقرَقتْ دمعتانِ من مُقلتيها بِصمتٍ تام. عادَتْ بِذاتِ الهدوءِ إلى غُرفَتِها المُظلِمة. فتحت الشُّرفة. كانَ القمرُ غيرَ موجودٍ تلكَ الليلة، فظَهَرت النُّجومِ بشكلٍ أبرَز. عَرَفتْ في تلكَ اللحظة أنَّها استسلَمت، وفقدتِ القوَّةَ حتَّى للانتقام. بدا كأنَّ الموتَ يُلاحِقُها ويخطفُ أحبَّاءها. الحربُ اقتلعَتْ كُلَّ الحُبِّ ممن كانوا حولها ـ حتَّى وطنها البَعيد ـ مما جعلها تشعُرُ بالغُربةِ عَنْ كُلِّ شيء.

هي لا تمتَلِكُ روحاً ولا  وطناً.

ألقَتْ بِنفسِها مِن على الشُّرفةِ والدُّموعُ الغزيرةُ تحتلُّ مُقلتيها.

آخِرُ ما شعرتْ بِهِ كانَ الضَّياعَ التَّام، وآخرُ ما رأتهُ كانَ وجهَ صديقَتِها وأخيها يبتسِمانِ لها بينَ النُّجوم.  

ـ تمت ـ

🎉 لقد انتهيت من قراءة غُربة. 🎉
غُربة.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن