الحَياة، تساءَلَت، لِمَ جَميعُنا نُصِرُّ عليها؟ بعضُنا قَدْ يَتمنى الموتَ أو يفكِّرُ في الانْتِحار، لكنَّهُ حينَ يقتَرِبُ منهُ نَراهُ يُدفَعهُ ويُكافحُ قدرَ ما استطاعَ للبقاء. غريزةُ البقاء. لَو كانَتْ هذهِ الغريزةُ تُعيدُ الموتى إلى الحياة، لو كانَتْ.
تَجْلِسُ على كُرسيِّ في قاعةِ الانتِظارِ في المَطَار، مُنتظِرةً مَعْ ذَويها النِّداءَ إلى رِحلَتِهم، إلى ولايةِ كاليفورنيا في الولاياتِ المُتَّحدةِ الأمريكية. والِداها علَى يَمينِها صامِتانِ وشارِدانِ فيما لا يعْلَمُهُ أحد. أُختُها الكُبرى غيرُ الشَّقيقةِ 'لَيلَكْ' إلى جانِبِها تَحملُ أختَهُما الأصغر 'جِنينْ'. وبجانِبِ 'لَيلَك' يجلِسُ الأخُ الأكبرُ 'أيَهم' وَعلى وجهِهِ نظرةٌ قلِقة، فَهوَ مُدركٌ أنَّ هذا اليومَ قَد يكونُ اليومَ الأخيرَ الَّذي يرى فيه عائلَتَه.
تعالَى صوتُ النِّداءِ في أرجاءِ المَطارِ للرحلةِ التالية، نَهَضتْ وقدماها لا تَكادانِ تَحمِلانِها، هلْ ستَترُكُ وَطَنَها الآن إلى الأبد؟ لا أحدَ يَعلم. قيل : "الصِّحةُ تاجٌ على رؤوسِ الأصحَّاءِ لا يراهُ إلَّا المرضى"، وهي تَقولُ أنَّ الوطَنَ كذلك، كَنزٌ لا يُحسُّ بِهِ إلَّا منْ شَعَرَ بالغُربةِ الَّتي بَدأتْ تغزو كيانَها.
بَدَأتْ نَبَضاتُ قلبِها المُتألِّمِ تتسارَع، بالأمسِ فَقَدَتْ صديقَتَها ونِصفَ روحِها، واليومَ ستَفقِدُ وطَنَها. أدركَتْ أنَّها لا تمتلكُ روحاً ولا وطناً.
ظلَّتْ شارِدةً تُفكِّر في اللاشيء، والعَديدُ منَ الذكرياتِ والمشاعِرِ المُختلطةِ تَدورُ باستِمرارٍ في ذهنِها بعبثيةٍ لا معنى لها، إلَّا أنها زادَتها ألماً. أوقفَ دورانَ مشاعِرِها يدانِ تشدَّانِها إلى حضنٍ عَميقٍ، يدا أيهم. في عِناقِهِ بَدَأتْ الأوهامُ تُساوِرُها عنْ فُقدانِه، هِيَ لَن تحتَمِلَ ذلكَ مُطلَقاً. أيُّ ذنبٍ ارتكَبَهُ شابٌ في العشريناتِ أودى بِهِ مقاتلاً في حربٍ عَبثيةٍ بِلا جَدوى؟ سألَت نَفسَها مِراراً، لكنَّ الجوابَ بقيَ محظوراً عَنها. تسرَّبتْ دُمُوعها مرَّةً أُخرى، وأفلَتتْ شهقاتُها ونَحيبُها المعهودُ مِنها.
أحسَّتْ باليدينِ تبتَعِدانِ عَنها، وبيدينِ آخرتينِ تَدفعانِها بعيداً عَنْ أخيها، ولِوهلةٍ شَعَرَتْ أنَّها لَنْ تَعرِفَ السَّلامَ داخِلَها أبداً.
* * *
