رشفة الجنون السابعة

43 8 9
                                    

عندما لم يبقى سوى يومين لرمضان ذهبت للسوق لشراء كل ما احتاجه من مواد غذائية حتى ظننت أنني سأُدخل السوق كله في سيارتي.

كان كُتيبي العجوز يحاول ثنيي عن شراء اشياء لن احتاجها لكنني كنت ارفض مدعيةً أنني ساحتاجها؛ كقوله :
-ما حاجتكِ لثلاجة جديدة و لديكِ أخرى كبيرة لا تستحق اسم ثلاجة بل تستحق أن نسميها سوق مُثلج.

و كان ردي :
-هي لن تكفي لهذه المأكولات،  و أشرت إلى القاطرة التي أمامي و اردفت :
-و حتى شراء أخرى لن يكفي.

تعب من عنادي كُتيبي و أثر السكوت بعدما حاول نصحي بأن رمضان شهر الطاعات و ليس المأكولات، و عوضاً عن شراء اشياء لن احتاجها أقوم بتوزيع أموالي بين الفقراء،  و كان ردي بأنني هتفت ساخطةً من فعلته :
-ماذا تقول؟! تريد أن اعطي أموالي للناس هكذا جاهزة و أنا تعبت وبذلت كل جهدي في بيع الحلوى من أجل جمعها.

.........

بدأ أول أيام رمضان، و كان يوم حار جداً ، استيقظت منذ الصباح لأُعد لنفسي مأكولات من جميع الأصناف؛ فقد أعددت للأفطار اللبن و السمبوسة و الشربة و الليمون و القهوة و السلطة ، و للعشاء المرق و المشكل و جميع أنواع المكرونات ؛ الاسبقتي و باللحمة المفرومة ، و الرز و الكبسة  و غيرها وغيرها من المأكولات اللذيذة التي لا اشبع منها حتى التي لا احب أكلها كالسلتة و الفحسة و هذا كله لأنني شعرت بجوعٍ قد يأكل الجبال لو هي تُأكل، و للتحلية أعددت الكثير من الحلويات مثل المحلبية و الجيلي و البسبوسة و الكنافة .

و عندما أذن المغرب انطلقت في معركة الالتهام لتلك المأكولات؛ طبق تلو طبق حتى أنني لم اتوقف للصلاة ، كان كُتيبي يحاول جاهداً ايقافي خوفاً عليّ أن اصاب بالتخمة لكن بآت محاولاته بالفشل لأنني فعلاً اصبت بالتخمة .

كان الأمر فضيع، كُنتُ اشعر و كأنما جبل وُضع على معدتي المنفوخة، ذهبت للمشفى علّي أجد علاجاً يساعدني لكن الطبيب منع عني الأكل لقوله حتى تهضم معدتي المسكينة كل تلك المأكولات .

"هل يغار مني ذلك الكُتيب الخرف لأنني بشرية أكل ذلك الأكل اللذيذ و هو لا؟ " كنت أردد هذه الجملة كلما عدت من أمام الأعمدة البشرية التي تحرس مطبخي مني بعدما وضعهم الطبيب بأمر من كُتيبي ، لقد ازعجني هذا الأمر لأنني ساُحرم من الأكل .

.........

مر أسبوع على المجاعة التي أنا فيها ؛ لا اتناول إلا رغيفاً يابس مع قطيرات من الماء عند الإفطار و السحور، قررت حينها الخروج من منزلي للبحث عن الطعام في الخارج برغم أن منزلي كمجمع تجاري للأغذية و لكنني محرومة منها بسبب ذلك الخرف الذي يصر على إجاعتي.

سرت في الطرقات بأقدامي بعدما تعطل إطار سيارتي ، كنت اشتم الروائح الزكية المنبعثة من المطاعم و كل الطيور التي تسكن معدتي و أمعائي تنقر و تنعق و تصيح تحثني على شراء تلك المأكولات المعروضة و لكنني لا استطيع شراءها لتهوري بالخروج دون نقود ، شعرت و كأنني متشردة تطالب بلُقيمة تسكت غابة الطيور القابعة في بطني.

شعور بالخزي و الذل و المهانة اجتاحني عندما أعطتني طفلة صغيرة بملابس متسخة جزء من تمرة كانت تأكلها؛ عندما شعرت بما أُعانيه من جوع، تمنيت حينها أن تُزلزل الأرض و تُفتح كفم شخص جائع لتبتلعني من على وجهها، أنا صاحبة القصور و الأموال و الأسواق المُثلجة تعطيني طفلة مشردة الطعام بدل أن أكون أنا الذي أُعطيها ، عزمت الأمر بأن أوزع كل ماشريته بين فقراء عالمي اللهلبيني.

لقد شعرت بالخفة و الراحة و الطمأنينة تسري في أوردتي بعدما قمت بذلك العمل لذا لن اتخلى عنه حتى لا أخسر هذا الشعور.

🌸🌸🌸

قال الله تعالى :

« وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29)»

سورة الإسراء

ترهات  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن