غصة العمر

25 2 0
                                    


شهيقٌ آخرٌ يضاف لشهقاتي التي باتت معدودة في هذه الدنيا رغم كثرتها,لم يكن هذا شهيقاً عادياً, كان مزيجاً من نار البعد وجحيم الاشتياق هو شهيقٌ أيلوليٌ بامتياز لا يعاني من أي أمراض تذكر عدا مرض نفسي واحد فتك بي فجعلني بعيدةً عن الحياة بعد إبليس عن الجنة!
في هذه الحياة مجموع شهقاتك بعادل مجموع زفراتك ولكن تختلف حدتهم تبعا للجو الذي تعيش فيه, فأن تجلس وحيداً كئيباً في مساء لا يعرف الرحمة بقلبك تستنشق فيه هواءك المخصص ليس كمثل أن تجلس وسط مكانٍ مفرحٍ يجتمع فيه قلبك البعيد عنك مع جسدك..
أهذا صحيح؟
فعتبة الألم هنا مختلفةٌ جداً عن غيرها هناك,وأما عن عتبة ألمي فقد جبلت  على الكتمان الحارق الذي يلهب جسدي فيميته شيئاً فشيئاً.
فالكلام الذي أخفيه وراء بسمتي أصبح يقتلني مؤخرا, يراودني كل مساء وصباح,أقف في حضرته يتيمةً عصية ًعلى إدراك ما يجري حولي..وجوده يأخذ عقلي إلى رحلةٍ لا معروفة الطرق, يتقد جمر الشوق في داخلي كلما لاحت أخيلته فأشتعل!
أ هي نار الشوق والحنين له أم نار الكراهية والحقد؟
فيما سبق كنا ضيوفاً للحياة بشهادة مطر كانون, تتسابق خطواتنا تحته فتبتل عاطفتنا وتروى كما لم ترو من قبل, نسترق النظر إلى السماء الممتلئة بغيوم الهوى فنطير فرحا, لم نكن آبهين بمن كانوا حولنا ,كنا في عالمٍ خرافيٍ من العشق الواهم.
في اقترابه من ذاتي أتقلب وأمزج, أصبح خليطاً من مشاعر متناقضةٍ وصفاتٍ عمياء.
الآن... أمضغ على مضض لقيمات العيش من دون وجوده, كان قلبي قد اعتاد عليه حتى بات دواءً لداءه المستعصي على الشفاء,أغرق في بحره وأتعلق بطيف صوته.
ذات مساء ... في آخر يومٍ لي معه,كنا في ضيافة ضوء القمر تتراقص حولنا النجوم ونلقّن دروساً في الحب المزعوم, غصنا في كلامٍ حزينٍ حتى بات صدر الحياة ضيقاً بنا نحن الاثنين.
فجأةً.......
حانت مني التفاتةٌ بسيطةٌ نحو نجمةٍ تخفت, تسارعت دقات فؤادي حتى شككت أن القمر اختفى وراء الغيوم خجلاً!
"يحب أحدهم ليبعد شبح الكراهية عن حياته, يستعمل براثنه ليتعلق بالحبيب ويشبع رغباته خوفاً من التغلغل في محيط الكره والخداع...
أكنا نضحك على أنفسنا بحر الكذب؟
نحن غارقون به إلى القاع دون علمنا !
ألا يكفي الإنسان أن يبتعد عن السيئات أم أنّ تلك النفس البشرية التي تقترب للفطرة الحيوانية هي التي تسيرنا دون إرادةٍ منا لنشبع رغباتٍ في نظرنا لا تقوم الحياة دونها؟ "
نظرت له كان بجانبي ينظر للمدى البعيد,لم أتمكن من تحديد موقع ناظريه , لم أملك الجرأة عن سؤاله فيم يفكر؟
فقلبي كان يعرف الجواب,ويتقطع إثر تلك المعرفة.
زهور الربيع تنقشع عن وجهه الجميل وتعتليه أوراق الهوى الصفراء..
تراه ألم يشعر بي؟ ألم يشعر بشمعة قلبي تخبو شيئا فشيئا؟
لقد كنت خائفة عليه كما لم أكن من قبل, خائفةً من المستقبل.
كنت في مهب ريح أسوأ الأفكار فما أسهل أن تنزعني تلك الريح من بئر الطمأنينة لترميني في محيط الخوف والتردد,تنثرني إلى مسلخة القلوب المشهورة بكثرة أمواتها, فبرعم صغير كيف له مقاومة دوامة كهذه؟أ
وخزني ألم في رأسي كأنه ضربة صاعقةٍ فاستفقت أخيراً من شرودي الأخير, ولكنه لم يزل شارداً في المدى , هرعت إليه وقفت أمامه كنت أرجف... أسناني تصطك ببعضها... نظر إليّ نظرة فارغة كمياهٍ راكدةٍ تحتاج حجراً صغيراً لتتحرك..
كان يبحث عن مدخلٍ في متاهة عيني ليبعدني عن الحقيقة, لم يستطع إيجاده فقد توصلت للحقيقة بنفسي.
لم أدر كم مضى من الوقت قبل أن يبدأ كلامه كل ما أعرفه أنني لمحت شبح ابتسامةٍ على وجهه الأصفر ترافق مع سقوط أولى ذرات دمعه..
لم أجده يوما هكذا , كان القوي الذي استلهم منه شجاعتي,مقبرةً لحزني وصانعاً لفرحي, دموعه تلك جعلت بنيان جسدي يتهاوي بين يديه..كنت أستمع له ولا أقوى على الكلام يقول في وجعٍ واضح :
-استيقظي...لن أتركك...أحبّك..استيقظي أرجوكِ..لن أتخلى عنك..لا تموتي نور
"لا تموتي.."
تردد صداها في داخلي قبل أن أطلق أولى شهقات بكائي
-لا تتركني أجوك أنت الصديق والحبيب, أنت الأب والقريب..ابق بجانبي أنا من دونك أموت!
بقي ينظر إلي بعينين تملؤهما الدموع وتطفو منهما بغزارة...لم يتكلم,تلك العبرات هي التي تتكلم..
وأما عني فقد كنت أقرب للاحتضار ...لم أنس تلك اللحظة,جسدي ينتفض بكامله, رعب يغزوه ويجتاحه,خوف يتملكه فيوقعه ضحية أخرى..أجاهد لأبقى صاحية.. بدمعي,بتلك اللآلئ التي مابرحت تنهمر حتى جفت!
بقيت نظرته مرافقة لي..ثم كل ما أعرفه أنني استفقت على صراخ الممرضة وهي تقول :
-لقد استيقظت,تلك الغيبوبة التي دامت لأشهر انقشعت عنها..
ماذا تقول؟؟غيبوبة؟ لأشهر!!
سرير أبيض, أدويةٌ تملؤ المكان,رائحةٌ قاسيةٌ تعبق بالمكان,كل شيء كان مبهماً بالنسبة إليّ .
يدي كانت تسير فوق تضاريس وجهي بحنوٍ,إلى أن عبرت أنهار دمعي التي لم تكن قد جفّت بعد!
-أين هو؟ أين أنت يا نبضي؟؟
في هذه الأثناء لم يكن في الوجود أحدٌ سوى والديّ..لم يسمعانني, أمي تزغرد وأبي يهلل!
-أبي ..أين هو؟
+من يا ابنتي؟
-نبضي يا أبي... كيف أتيتُ إلى هنا؟
+شابٌ في مقتبل العمر أتى بكِ...قال أنك غبت عن الوعي حينما كنت تعبرين الشارع..أوصانا بك خيراً قال "دير بالك عليها ياعم..هي وردة مالازم تذبل"
فاض دمعي مجدداً ,لقدتركني وغادر..
عادت النوبة العصبيةُ, كنت مثقلةً بالهموم , بالشوق, بالحنين..
غادر وتركني,فلمَ أنا بقيت على قيد الحياة؟
الموت أرحم لي من هذا العقاب..
لم أستطع التشبث به ببراثن المحبة, ضعفتُ فذهب..
خرجتُ بعد مدةٍ من حضن الرعاية الرعاية الإجبارية ,هكذا كذبوا..
في مرقدي انفتحت شقوق الهوى,فبدأت موجة العذاب مجدداً, أوقدت النار تحت الذكريات..لتستوي..ثم لتحترق...فتصيرُ رماداً مخلّداً داخلي..
وجدتُ أنفسي أمشي في الغرفة ذهاباً وإياباً,أضرب كفِّي بالآخر,بتساقط دمعي, أذكرهُ وأذكر آخر لقاءٍ بيننا..
ما هي سوى لحظاتٍ بسيطة ولفتت انتباهي أداةٌ معدنيةٌ ..اقتربتُ منها..
لقد كان هاتفي المحمول, منذ نصف حولٍ لم ألمسهُ تقريباً..ترى ما حالهُ..
هل مازال يعبقُ برائحته السرمدية؟
تلك الرائحة التي كانت مزيجاً من الصدق والربيع, مقلمةً بالحب والشوكولا العطرة!
اقتربت منه..استنشقتهُ..مازالت رائحتهُ كما عرفتها,فتحتهُ وبدأت الصور تنهال عليّ كوابلٍ من النيازك تحرقني..خرجت منها بسرعةٍ ودخلت لتفقّد الرسائل..
الكثير...الكثير منها..
من صديقتي التي لم تسأل عني منذ خمسةِ أشهر..من شبكة الخطوط..
ثمّ منه!
رسالةٌ منهُ هو!!
-كيف حصل هذا؟
كان قد مضى على استلامها أربعة أشهر, بدأ خافقي بالنبض, وشرع بالتمايل فجأةً,كانت انحناياتهُ خلّابة,ظهر القمرُ فجأةً ساطعاً على غير العادة..ونسمات هواء الخريف ملأت قلبي..
فتحتُ رسالتهُ...انطفأ النور, اختفي القمر..قلبي توقّف , فقد كان مضمونها:
" كيف حالك نبضي؟ أ صحيت من غيبوبتك تلك؟ أم أن الهوى فتك بك صغيرتي؟
سلّمتك لمن يقدّر الأمانة..وذهبت, ربما لن أعود, فاحتمال عودتي شبه مستحيل..آثرت القتال للعيش بكرامةٍ على أن أبقى بجانبك صغيرتي..
أما عنك..أريدُ منك وعداً قاطعاً بأنك ستتحسنين..كنت على وشك الصعود للطائرة لأسافر,أمسكو بي وأنا في المطار..استطعتُ الهروب...قاتلٌ أصبحتُ أنا مذ قتلت قلبكِ يا نبضي..سامحيني..
من أجل حبّك لي سامحيني"
"سامحيني"
كيف سيتمكنُ هذا المقتول من مسامحتك يا نبضي؟
وهل الميّت يسامح الحيّ أم ماذا؟
لقد قتلتني مرةً وها أنت تعيد قتلي للمرة الثانية, محكومٌ علىّ بالموت ومحكومٌ عليك بقتلي..
ألن تستطيع القوانين الإنسانية القصاص منك؟
أن يحكموا عليك بالإعدام شوقاً, إن لم تعد إليّ, إلى نبضك الذي مات مرتين ومازال على قيد الموت بفضلك!
أريدهم أن يقتحموا قلبك ويحوّلوه إلى خريفٍ قاحلٍ لا زهر فيه ولا عطر, فعطري نفدَ من وراءك...أن يدخلوا إلى تلافيف ذاكرتك ويجعلونني الوحيدة لديك!
لقد حولتني إلى إرهابٍ مفعمٍ بالخوف والحنان ,جعلت مني سيدةً للدمعِ , وملّكتني للأتراح..ألا حسبيَ الله عليك؟
كيف سيسامحك قلبي إن كان عقلي في شكٍ كبيرٍ من مسامحتك؟
عقلي يأبى ذلك ونبضي يأمرهُ بها...هذا التناقض يعيث بنفسي خراباً..
أ،ا بخير,كل شيءٍ في داخلي بخير..بعد غيابك لم أمت كما كنت أظن.. أنا أسامحك على كل شيء..ابق بخيرٍ لأجلي..
أرسلت هذه الكلمات وكلّي أسىً وحزن,رميت الهاتف من النافذة, فكُسِر أمام ناظري...
قررت التخلي عنه, فتخلّيت عن أشيائه أبقيته داخلي, قررت دفنه في تلك المقبرة بجانب قلبي, فحنّطته هناك...خشيتُ عليه من الموت والهلاك..خشيت على رائحته العطرة من الذهاب دون رجعة..وخشيت على نفسي!
"ربما هو لخوف الذي يسيرنا, الحب لعبةٌ واهمة تُكبرنا فقط..تجعلنا نموت ونحن أحياء..لا أدري كم مضى عليّ وقت منذ تلك الحادثة, لم أعد أهتم بالتاريخ,باليوم,ولا بالساعة..
جلُّ ما يهمني هو متى سأموت...أصبحت أتنفس كثيراً علني أنهي ذلك العدد المحدد لي من الشهقات في هذه الحياة القصيرة بلا سيئات..لكن شهقاتي على ما أظن, عددها أكبر بكثير مما تخيّلت"
تمت

نحو النجاة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن