في بعد الحروف

85 7 0
                                    

تناولت اليراع بين أناملي أزخرف على الورق ببضع انعراجاتٍ لطيفةٍ، و تسلّلت الكلمات إلى جعبة رأسي تداعبني، ليقع على وجداني لحنٌ شديٌ من القلب إلى القلب "اللّٰه أكبر".

نتأت من غفلة الحروف و الكلمات تلك و أنا أخط عن بُعدٍ ليس له واقعٌ و لن يكون، لأستقيم نحو الحمام أتمتم بأدعية تجعلني على أتمّ الاستعداد للقاء ربّي.

إنسلّت قطرات المياه تداعب أناملي، محيّاي و قدماي لتوقظ في نفسي محبةً صادقةً لخالقي و عدت لتلك الحجرة المنطوية أضلعها، المزخرف سقفها، المنقوشة عليها لمستي بيراعي، و نحو القبلة أقمت و شرعت في الصّلاة، سلّمت عن يمينٍ و يسارٍ و ختمتها بالدّعاء.

جلست حُدوّ النّافذة أُطلّ على الحاضر بروحٍ طموحٍ و قلبٍ جموحٍ، أتلو بعض ما يقربني من الرّحمان الرّحيم، ثم عدت إلى أفق التّدبيج لينسحم شأن البعد الذي رقشته بقلبي و خيالي في كنف سحمة الدّجى على مهد ردهةٍ ستكون ليراعي عنواناً،هممت بشدّها من الحافتين لكن لم تطاوعني نفسي لإفناء أمرها، فحضنتها بين أناملي.

فجأةً، و من الفراغ وقع على مسامعي صدى غريبٌ لم يكن له ولوجٌ، انتصبت مذعورةً من الموقف و تقطّعت أمشاج قلبي فرقا لأحرّك أضلاع المقبض مرتعشةً، و أنا أرمي بنفسي نحو الحرف المبهم سين أو ما نسمّيه عادةً بالمجهول.

زاد الصّوت حدّةً و قد كان يتغنّى باسمي فخطوت بضع خطواتٍ، صلت و جلت بمقلتاي في الأفق ثم هرعت أسير نحو العجز محدّقةً بوجه الشمس مدلهمّة الضّياء التي باتت قمراً بين عشيّةٍ وضحاها، و استأنف الصدى هتفاته المروّعة، و أخيراً تنبّهت إلى منبع القلق المنبعث من حضن كفّي لكن بعد فوات الأوان.

زلّت قدمي لأضطجع على كومة القطرات المتساندة تلك التي لم أعرف لها قاعاً و بئرٌ بلا قاعٍ إنسان طيّ التهلكة بلا قيود.

كلّ ما رسخ في ذاكرتي و نقش على صفحتي البيضاء في أوجّ الصّبا عن الكثافة و ما إلى ذلك من العلوم الفيزيائية لم يقع على أرض الواقع المرير و لم يحملني نحو طوق النّجاة، أسدلت أجفاني و هتفت بشهادةٍ فاصلةٍ بين حياةٍ و مماتٍ لم تكد تطرأ على شفتاي اللّتين تحركتا بمحض إرادة الخالق البارئ، و كل ما كنت أعيه إبّان تلك اللّحظات العسيرة هو حقيقة أنّ هذا الجحر و القاع اللاّمتناهي سيكون بوّابتي نحو حتفي بعد أن تقطّعت آخر أنفاسي و حبال حياتي.

بعد غفوةٍ لا أذكر أو بالأحرى لا أدري كم دامت وجدت نفسي في حضن سحمة و طبيعة غنّاء و نسيمٍ و خريرٍ و ألحان شدوّ الدجى.

تشبّثت بخصلة أعشابٍ و بفرع الشّجرة العريق لأتعزّز بهما في نهوضي، نصبت قامتي لأعود بخطواتي إلى العجز، إلى الشجرة الشامخة الأصيلة المتسلّلة من مهجتها حبالٌ فارعة الطّول زخرفت الفضاء بزركشتها و إن كانت تلك الشجرة اليافعة كبد بل فؤاد الطبيعة الخلابة و روحها المرهفة.

و من العدم ولجت فتاة تنهل من بحر حروف الرّواء ما تنهل و لا تكفي لوصف عذوبة منظرها، عيناها العسليّتان المحفوفتان بالبلاغة محفورتان في حضن ثغرٍ أزليٍّ تلقّف من البياض و الاحمرار فمزج بين الرّونقين، كاللؤلؤ المكنون تصون جوهرها في حجابها الأصيل، و لعلّها تخاف على شفتيها الملطختين بلون الزمبق من الكلمات الحادة، فتمطهما لترسم ابتسامةً زركشت طلّتها.

توجّسٌ و شدهٌ اعترياني و لا أعرف كيف اجتمعا، و لعلّ الوجوم استحوذ على الأجواء، حرّكت شفاهي ببطءٍ لأزيح عن لساني بضع كلماتٍ لكن استبقتني بالكلام...

الشهادة الصامتةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن