بعيداً عن أرض الواقع

39 5 0
                                        

شمخت برأسها إلى العلاء و فرّت من جوفها كلماتٌ عذبةٌ مهموسةٌ بنبرةٍ رقيقةٍ،

"إنّها شجرة الحياة...مسك المهجة"

لتردف في سلاسةٍ و وقارٍ،

"تطأ أكثر من قدمٍ هذه الأرض المباركة، و يمتزج مع هذه الشجرة العظيمة قلب ثمانٍ و عشرين روحاً بريئةً ممّا زخرفه و رقشه الكتّاب على مصفوفاتهم، و أزاحه المتحدثون عن ألسنتهم، و نقده القرّاء في جولاتهم في بحر الكتب، من نبذٍ و ذمٍّ و شتمٍ، و هم أعلى شأناً بل أسمى مكانةً و قيماً من أن يذكروا على صعيد الاضمحلال و قد يغرقون في قاع ذاك السبات السرمدي بمجرد أن يجف رمق الحبر أو تتقطع فروع الشجرة المشيّدة في الأفق"

شدّت قبضتها محكمةً أناملها الرّقيقة راسمةً على محياها جوى طمس بسمتها الغنّاء تلك.

"و أنا أستفتحهم في سبيل الضّلالة و الشرود عن المثوى"

برهةٌ و عادت المياه لمجراها، لتمدّ كفّها مؤانسا افتراراً بهيجاً فتح بتلات قلبي و ورّق صفحات ذاكرتي.

"بحبر يراعك و يراع كل برعم نما على أرض الواقع شيّد هذا البُعد...أنا قطعةٌ منك و أنا لغةٌ رقشت بالثمان و العشرين حرفاً خالدةً على مخطوطة الحياة..."
"أبجدية"

لم أجرأ على ردّ تلك الإبتسامة البريئة و قد فتحت لي رحاب قلبها، ضممت كفها بين أحضان كفّي و أزحت عن لساني بضع كلمات علقت بين تفكيرٍ عميقٍ.

"شرفٌ لي أن أعرف من كانت فروعنا من غصنها اليافع و جذرها الأصيل و مَن مِن محيطات شتاتها تمدنا بالكلمات الفوّاحة...
أنا كاتبةٌ على أوراقٍ تمزقها الرّيح...عائشة"

شابكنا الأنامل و حدّقنا بوجه القمر لأحدو حدوها نحو المجهول، تطأ أقدامنا بساطاً أخضراً و نمرر عينينا بين الرّواء الأخاذ لتقع مسامعي على صدى خطوات ذاك الغريب، كان يمشي في أسارير تلك الحديقة كما شاطرناه المشي لكنه ومن العدم حرّك شفاهه لينجلي عن فاهه في هزؤٌ بضع كلماتٍ حادّةٍ كالسيف.

"عبق التّخلف يطغو على عبير الأزهار، و إن من تغيير يجدّد العقد الفوّاح صنو ما تقترحه"

و هتف بتلك الكلمة البغيضة بكلّ شموخ و استعلاء.

"إنجليزية"

لم أرمقه بنظراتٍ حادةٍ و لم أزح عن لساني تلك الكلمات التي قد تجعلني أبخل بني آدم حسناتاً بل أبقيت على مقلتاي تتشبثان بوجه الأرض لترمقني أبجدية بنظرات غريبة مميلة شفتيها بنبرة متناسقة و همسات مريبة.

"يعرب..."

"و ليس بيعرب ما يعتقد أنّه جدّ العرب و إنما اسمٌ موروثٌ ليس بعلى المسمّى"

زيادة عن تقطيب حاجبيها و بنبرة تزداد غموضاً.

"و في الآونة الأخيرة شرع في ابراز ما يُكنّه من اخلاصٍ للقرية الإنجليزية و مماثلة لعاداتهم...لقد ولج وجهه الثاني..."

جذبتها من معصمها بقوّة لشدّة الحمم التي تراكمت على جبهتي لتضرم النيران في مشاعل قلبي، و تراودت في ذهني ذكرى مبهمةٌ و كأن الاسم مألوف لدي، و لكن أين؟

لم تنتظر مني ردّاً بل اكتفت بكلمةٍ خفيفةٍ لطيفةٍ عبقةٍ بعطرٍ فواحٍ جعلني أبصر نفسي خرقاء

"آسفة"

لتلحقها بتربيتة على كتفي، فمططت شفتاي في ثغر محياي الباسم لنواصل السّير على خطى الدّجى...

الشهادة الصامتةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن