تهادى جوناثان نيل على المقعد الجلدي خلف مكتبه الفاخر باضطراب وتململ واضحين وألقى نظرة فاحصة على ابنته جيسيكا الواقفة في وسط الغرفة, لاتحرك ساكنا لقد أثار قرارها شجونا قديمة في نفسه ونبش صفحات من الماضي طالما تمنى ألا تعود فبدا مغموما في عينيه أصداء قلق عميق وعلى شفتيه أشباح كلمات يحاول خنقها قدر المستطاع
اليوم قررت ابنته التقدم لوظيفة شاغرة في مدينة لويزفيل كطبيبة مساعدة للدكتور اوبريان وشريكه . جاءت لتعلمه بخطوتها لا لتأخذ برأيه فهو أعلم الناس بابنته وبصعوبة تراجعها عن قرار تتخذهزفر الأب العجوز زفرة طويلة ورفع حاجبيه سائلا: وماذا عن قرارك التخصص في طب الأطفال؟
: كان هذا قرارك ياوالدي من غير ان تستشيرني اجابت جيسيكا بجزم ممزوج باللوم
تردد صدى كلماتها في ارجاء الغرفة وأحست انها أخطأت في اختيار عبارتها لم تقصد ان تنفض الغبار عما حدث يوم قرر أخوها جايمس الذي يكبرها بأربع سنوات العدول عن اكمال تخصصه في الجراحة العامة كوالده مفضلا الالتحاق بكلية الهندسة يومها لم تخف خيبة جوناثان نيل على احد لكنه كتم غيظه وجاهد في اخفاء قنوطه حتى لايشكل موقفه عثرة في مستقبل ابنه البكر الابن الذي اراده ان يجسد الحلم ويحمل اسم العائلة بعده في ميدان الطب
منذ حداثتهما عمل الوالد الطبيب على تنشئة ولديه تنشئة صالحة وحاول منذ بدئهما دراستهما الثانوية جذبهما الى حقل الطب وما ان أوشك على قطف ثمرة محاولاته حتى فوجئ بقرار جايمس لكن خيبته لم تدم طويلا وحلت مكانها فرحة عامرة عندما انبأته جيسيكا بعزمها على دخول معهد الطب وسلوك نفس الطريق الذي بدأه منذ أربعين سنة، والآن ولما تكتمل الفرحة بعد هاهي تواجهه بقرار موجع آخر لاتدري ماستكون عاقبته.
مسح جوناثان وجهه براحة يده وكأنه يطرد صورا قاتمة من مخيلته وتطلع الى ابنته الحسناء بحنان: هل اسأت التصرف معك جيسيكا ؟
أدركت ان الفرصة سانحة لتكفرعن فظاظة عبارتها السابقة فأجابت بتودد:
ماهذا الكلام ياوالدي؟ أنت نعم الأب ولن أنسى أبدا ارشاداتك لي واهتمامك بمستقبلي.
أكمل العجوز بألم ماأحجمت ابنته عن قوله: وتعتقدين ان الوقت حان لتستقلي أليس كذلك؟
جيسيكا :علىّ ان أشق طريقي بمفردي واختار ماأظنه الأفضل
خيم صمت ثقيل على القاعة وغرق الاثنان في سكوت وتردد. فجأة نهض الوالد عن مقعده ومشى نحو المكتبة الزاخرة بكتب الطب القيمة وصاح بصوت أجش تخنقه الغصة: ويحك ياجيسيكا لايعقل ان يهدر شخص بمستواك الثقافي حصيلة علمه وجهده في مكان مزر كلويزفيل
جيسيكا:لاأظن ان انتقالي الى لويزفيل سيهدر مستقبلي ياوالدي بل سيتيح لي الاطلاع على حالات كثيرة ومختلفة تساعدني على اكتشاف مدى تقدمي كطبيبة
الأب:بامكانك اكتشاف ذلك هنا في هذه المستشفى
جيسيكا بعناد عكسته عيناها الباردتان: كلا فأنا لم أفعل مايستحق الذكرطوال العامين المنصرمين ولم أعاين في هذه المستشفى سوى مرضى لم يكترث لهم بقية الأطباء لأن حالتهم لاتدعو الى القلق وبالتالي لافائدة لهم منهم
وأضافت بمرارة: تدربي هنا لم يفدني على الاطلاق
الأب: هذا تهجم فاضح ياجيسيكا
جيسيكا:انها الحقيقة ياوالدي
التقت عيونهما للحظات قصيرة التقطت خلالها انفاسها وتابعت بلهجة حانقة جيسيكا:
الأطباء هنا متشدقون يلهثون وراء المال والشهرة بأساليب قذرة ضاربين بجوهر هذه المهنة النبيلة عرض الحائط
علق جوناثان بتحد: أتعتقدين ان الأمر مختلف في لويزفيل؟
جيسيكا :لدي من الأسباب مايحملني على هذا الاعتقاد