قرية طيبة إحدى قرى شمال السودان الصغيرة .. كأي قرية من قرى دول العالم الثالث، الحياة فيها أشبه المستنقع تنحدر من سيء إلى أسوا وتبرز فيها متناقضات المجتمع الثالث الطيب والشرير والقبيح ...مع خيوط الفجر الأولى يتعالى صياح الديوك بين أكواخ القرية المتناثرة، التي تختبئ تحت غابة من أشجار النخيل والدوم. وهي من أشهر نباتات المناطق شبه الصحراوية..منازل القرية مبنية بالطين ما عدا منشآت الحكومة وبيوت التجار، مبنية بالطوب المحروق ومطلية بالجير الأبيض جعلها ذلك تشكل نغمة نشاذ في هذه المنظومة التي حاكها الفقر.. حاج إبراهيم تاجر كبير من أكبر رجالات القرية.. ويلقب أيضاً بود المهتدي لأن أسلافه كانوا من اليهود القدامى في المنطقة وأعتنق جلهم الإسلام بينما هاجر البعض الآخر.. يقف منزله شامخ في قلب القرية.. كانت الانتهازية تحتل مساحة واسعة من شخصية هذا الرجل ويجسد ما يسمى برجل الدين ورجل الدنيا، يأوم المصلين يوم الجمعة في جامع القرية ويقوم بتخزين الدقيق والسكر والجازولين في متجره الأشبه بجحر الضب الخرب بالإضافة إلى أنه عضو بارز في مجلس المنطقة ويعتبر زراع للحكومة في القرية متزوج من امرأتين، ابنة ود البشير وهي عقيم لا تلد والثانية شقيقة عبدالباسط، التاجر بالإقليم الجنوبي، تدعى مريم، أنجب منها ولديه كمال وإيمان.كان للثروة التي هبطت على شيخ عبد الباسط أسطورة، ظلت تحكيها زوجته الطيبة آمنة للغادي والرائح، في ذلك اليوم ذو الحر القائظ، من أيام رمضان، حضر زوجها من مزرعته المتواضعة في معية رجل غامض يرفل في أسمال بالية ويحمل حبلاً ملفوفاً على عاتقه بعناية، كعادة أهل السودان، كانت قمة الأصالة تتجسد في رمضان عندما تدعو عابر سبيل ليتناول معك طعام الإفطار.. تناول الرجل الغامض الطعام معهم ودعا لهم بالبركة وبات ليلته معهم وفي الصباح ناول عبد الباسط الحبل وأخبره أنه سيعود ليأخذه يوماً وأندفع في طرقات القرية واختفى كأنما ابتلعته الأرض.. مضت السنين وانفتحت كنوز الحكمة على حاج عبد الباسط المزارع الفقير وبدأ يخطو خطوات واسعة نحو الثراء.. نجح محصول البصل الذي زرعه في ذلك الموسم واشترى شاحنة ثم أسطول شاحنات ينقل البضائع من الخرطوم إلى الأقاليم الجنوبية للبلاد، لم يغر الثراء المفاجئ حاج عبد الباسط بل كان سباقاً للخير، بنا المدرسة والعيادة بحر ماله، وفي كل المناسبات السعيدة التي تمر على القرية كانت له اليد الطولى، ظل لسانه دائماً يلهج بالشكر والعرفان لله الذي يرزق من يشأ بغير حساب، ومنذ ذلك الحين تمنى أهل البلدة لو كان ذلك الرجل الغامض صاحب الحبل ضيفهم فقد عرفوه، ، إنه العبد الصالح، الخضر. تمنوا لو كانوا صادفوه فهو يأتي مرة واحدة جالباً معه السعادة والثراء وسعيد الحظ الذي يعرفه، لأنه يأتي دائماً في ملابس الفقراء والمتسولين ومظهره الخارجي لا يدعو إلى الاحترام في هذا الزمن الذي يهتم الناس بالمظهر دون الجوهر.. كان هذا حديث حاجة آمنة الطيبة زوجة عبدالباسط.عن كثب من متجر حاج إبراهيم يلوح سور المدرسة الأبيض. المدرسة الأولية الوحيدة في البلدة، ملحق بها منزل حكومي واحد للناظر، كان في تلك الفترة الرجل الأسطورة ود الزين وزوجته زينب وطفلهما معاوية، منذ أن حضرت هذه الأسرة الصغيرة إلى القرية كانت محل احترام وتقدير الأهالي.. ود الزين رجل ثائر لا يرضيه الحال المائل، عرف عنه المشاركة في ثورات عديدة ضد الإنجليز ومن مؤسسي مؤتمر الخرجين الذي كان له القدح المعلى في اجلاء الاستعمار البريطاني من البلاد.عند نهاية الطريق الذي يفصل بين المدرسة ومنزل ود البشير الجزار، كان يقيم محمد أحمد وأولاده، محمد أحمد يعمل كاتباً في المحكمة الشرعية في البلدة وهذه المحكمة يأتيها قضاة موسميون من المدينة المجاورة، كعادة الفقراء وذوي الدخل المحدود، كانت أسرة محمد أحمد كبيرة توفى نصفهم بالأمراض المستوطنة، وبقيت زوجته ملكة، المرأة العنيدة التي كانت من أجمل حسان القرية أيام شبابها، تصارع في طلب ودها شباب القرية غنيهم وفقيرهم ولكنها اختارت محمد أحمد لشيء في فؤاد أم موسى رغم بساطته ولا مبالاته التي اشتهر بها في شبابه، أولادهم .. محاسن كبرى البنات ثم صابر وشريف وزينب ومسك الختام وليد الرضيع ..بقي أن نصف المعلم الأخير وهو قبة شيخ صالح التي تقع عند طرف المقابر، جوار شجرة الدوم العتيقة. أما المزارع فقد كانت تحتل الشريط الضيق بين منازل البلدة ونهر النيل.* * *في ذلك الصباح جلست ملكة تعد نفسها للذهاب إلى الحقل، يرقد زوجها الكسول في فراشه عند طرف الفناء وقد ارتفع غطيطه وتحته زجاجة الخمر التي لا تفارقه ابداً. وكوب ملقى بجوارها جلست محاسن قرب الموقد تعد الشاي. صابر لازال نائماً سابحاً في أحلامه الوردية.. فهو لا يحب العمل في الزراعة ويعتقد أن هناك معادلة مغلوطة أوجدته في هذه القرية.. أما شريف وزينب فقد استيقظا مبكرين وجلسا قرب الموقد في إنتظار الشاي كانت زينب تحمل شقيقها الصغير وليد والدجاج يجري هنا وهناك وقد تعالى نهيق الحمار في ا لخارج، التفتت ملكة إلى ابنتها زينب.- اذهبي وجهزي الحمار.نهضت زينب وسلمت وليد لأمه وانصرفت خارجة تضرب الأرض بأقدامها الصغيرة، بدأ البخار يتصاعد من صنبور إناء الشاي على النار.. انزلت محاسن الإناء وبدأت تصب الشاي على الأكواب، نهض شريف وناول أمه كوب الشاي، كانت ملكة تحملق في وجه صابر النائم بالقرب من والده " ومن شابه أباه فما ظلم" ، عادت زينب بعد أن أعدت الحمار وجلست ترشف الشاي في صمت وتلذذ، وضعت ملكة وليد النائم جانباً، نهضت قائلة: - محاسن !!- نعم يا أماه - اهتمي بشقيقك النائم هذا وعندما يستيقظ صابر دعيه يحضر إلي في الحفل ولا تنسي أن تضعي الشاي في الحفاظة لوالدك حتى لا يستيقظ ويحيل حياتك إلى جحيم.كانت هذه آخر كلمات ملكة قبل أن تخرج وتمتطي حمارها، تشق طرقات القرية المتربة وهي تتبادل تحية الصباح مع السابلة من أهل البلدة الطيبين اللذين كانوا يتدافعون في الطرقات كعادتهم كلما تنفس صباح جديد.خرج شريف خلف أمه مباشرة في طريقه إلى صديقه معاوية، هناك تعالى إلى أذنه العراك اليومي بين معاوية وأمه زينب ذلك الجدال الذي كان شريف يعرف أسبابه سلفاً، زينب تريد من ابنها أن يأوم فروضه في المسجد وابنها يرفض ذلك، هذا معاوية منذ وفاة والده ود الزين، ترك في نفسه ظلالاً من الحزن من الصعب محوها، جعل منه الحدث الجلل طفلاً منعزلاً، كثيراً ما كان شريف يراه يجلس وحيداً عند النهر، يحملق في الفراغ أمامه.. ظل شريف يردد أنه سيتنازل عن نصف عمره لو عارف ماذا يدور في ذهن صديقه، كان صديقه يقول كلاماً غريباً تقشعر له الأبدان، لا يحتمله شريف ولا والدته زينب، كان يقرأ في كتب والده الراحل لذلك كان جل حديثه يدور حول أسرار الحياة والموت.. لا زال شريف يذكر عندما وبخ صديقه وطلب منه الإذعان لرغبة أمه والذهاب لصلاة الفجر في المسجد، صاح فيه معاوية محتداً: - أنا لن أذهب لأصلي مع هذا المترهل حاج إبراهيم، لأني لا أريد الاستماع إلى خطبته التي عفا عليها الزمن منذ أيام أسلافه الأتراك والسلطان عبد الحميد.- لكن لا بد من الصلاة .- أنا أصلي هنا .. يا أخي نحن نبحث عن علاقة روحية بين الخلق والخالق تكون مبنية على المحبة والتقديس وليست مبنية على الخوف والطمع، كما يفعل هؤلاء الغوغاء اللذين تعج بهم قريتنا وعلى رأسهم حاج إبراهيم هذا.كان الانفعال والغضب يعصفان بمعاوية والكلام يتدافع من فمه كالرصاص.. حتى شريف نفسه يتملكه الخوف ويبذل الساعات الطوال في تهدئة ثائرة صديقه ويحاول استرضاء زينب بشتى الوسائل. إن غضب زينب ثلثاه حنان وحب لأبنها الوحيد الذي تخاف عليه من غضب الله.. كان غضب معاوية مليئاً بالكراهية لحاج إبراهيم الذي يتلاعب في أقوات أهل القرية.ظلت العلاقة التي تجمع الصديقين متينة لا تعكرها شائبة سوى الصداقة التي تجمع شريف بكمال ابن حاج إبراهيم كمال على العكس من والده.. ابن صالح واب ضال، ومع ذلك لم يكن هناك أي ود عميق أو انسجام بين كمال ومعاوية، ظل شريف بطبيعته المرنة يوفق بين الاثنين وتنمو الصداقة بين هذا الثالوث العجيب متسقة وهم لا يعلمون ماذا ينتظرهم في رحم القدر.هدأت ثائرة زينب بدخول شريف البيت، كانت تحبه كثيراً، نظر معاوية في إمتنان إلى صديقه الذي انقذه من غضب أمه وقد امتلأت عيناه بالدموع وزينب ما فتئت تذكره بوصايا المرحوم والده..لا زال شريف يذكر ذلك اليوم الذي نعى فيه الناعي ود الزين. كان الحر قائظاً آنذاك عندما تعالى صياح ود مريم ناعي القرية، الرجل المكلف ببث أخبار الوفايات، كان أهل القرية يتشاءمون منه عندما يرونه يجوس في الطرقات ممتطياً حماره الأسود.. فهو رسول ملك الموت، ما سلك طريقاً وإلا سلك السايلة غيره.. لم يرتح أهل القرية من كابوسه إلا عندما غرق مع المركب الذي يقل القرويين شرقاً، غرق مع نفر غير قليل من أهل القرية في تلك الكارثة الجسيمة ودفنت عشرون جثة في يوم واحد، وبموت هذا الرجل غرقاً تنفس أهل البلدة الصعداء.. لكن مع ذلك ظلت عواجيز القرية يرددن الأساطير ويلكن بألسنتهن الأساطير حول هذا الرجل. عندما يكتمل القمر ويصير بدراً في زمهرير الشتاء يخرج ود مريوم من النهر ممتطياً خماره الذي غرق معه في الحادثة والماء يقطر منهما، يتجولان في القرية ليلاً وقرب انبلاج الفجر يعودان إلى مثواهما الأخير تحت الماء.. كثيراً ما كانت هذه الأساطير تسبب الرعب لأطفال القرية ومن بينهم شريف وكمال ما عدا معاوية، الوحيد بين الأطفال الذي كان لا يؤمن بهذه الخطرفات، بل كان يقضي جل وقته في ليالي الشتاء الباردة على شاطئ النهر يناجي روح والده الوفية، يحدق في الأفق الجنوبي البعيد الذي ذهب إليه ود الزين يوماً ولم يعد، كان والده يتسلل إليه عبر ضوء القمر من مكانه السرمدي ويجلس جواره يحدثه عن ما يجب عليه التزامه حيال والدته والرضوخ لرغباتها.. كان الابن يستمع إلى أبيه في صمت مشوب بالحزن وأكثر ما يحزنه الدماء الغزيرة التي تغطي جسد والده، وجهه الصلب وعيناه الشجاعتان تمسحان الابن الكئيب.. كان الابن يسأل والده عن سر الدماء التي تغطي جسده ويرد الأب في حنو بالغ " أنها طلقات الرصاص يا أبني، لقد كنت في مقدمة المتظاهرين".
- هل كان ذلك مؤلماً يا أبي ؟
- نعم شعرت بالحرارة تجتاح جسدي وبعدها أخذت أعلوا وارتفع في فضاء رحيب جميل ..
- ما هي ثورة اكتوبر يا أبي ؟
- كانت كذبة كبيرة .. استبدل الناس ما هو خير بما هو أدنى.
وينظر معاوية إلى والده في دهشة.
- هل هذا يعني أن التضحيات ذهبت هباء ؟!..
- لم تذهب هباء يا ابني .. بل دلت على أن الشعب يملك إرادة التغيير.. لا تصلح ثورة من غير برنامج .. لذلك احتوتها كلاب السلطة.. وأجهضت طموحات الجماهير.
- اني اقرأ ذلك في مذكراتك التي تركتها لي ..
- هل أنت عاتب على رحيلي يا أبني
- لا يا أبي، إني اعتز بك كثيراً.
وعند الفجر يحضن الأب بجسده الفاني ابنه بقوه ويتسلل عائداً بنفس الطريقة، يعود الابن إلى البيت بملابسه المغطاة بالدماء.. لم يكن ذلك يزعج زينب، بل كانت تنظر إلى ملابس ابنها الدامية في حنو، وتنضوها عنه وتستبدلها بأخرى نظيفة وتحمل الملابس المخضية إلى حجرتها وتبكي وتبللها بالدموع، في الصباح تعود الملابس بيضاء من غير سوء بفعل دموع الأم التي لا يعرف علاقتها بإزالة الدماء عن الملابس القطنية.خرج الصديقان كالمعتاد يحملان الطعام إلى ملكة في الحقل كانا يشقان طرقات البلدة في صمت.. حافلين بالضجر.. " تباً لهذه العطلة المدرسية اللعينة.. متى تفتح المدارس وتريحهم من هذا العذاب؟! " ..
يتبع.....