كانت ملكة تغفو مع الإهتزاز المنتظم للقطار ودوي العجلات يدق أنغام رتيبة كبندول الساعة القديمة لم تكلف ملكة نفسها متعة النظر من النافذة.. فقد أوصدتها بعد احتدام الغبار.. القطار المكتظ يتلوى كالثعبان في الفيافي الموحشة والظلام قد بدأ يلف الكون بغلالة رقيقة.. صراخ الأطفال في العربات المتهالكة المظلمة يتداعى إلى مسامع ملكة بين الفينة والفينة مهيجاً أشجانها. ممرات القطار مكتظة بالركاب وتسلق نفر غير قليل منهم على سطوح العربات.قطار كريمة !! قطار الشمال الثاني الذي ينقل المسافرين عبر مئات الأميال من مدينة كريمة في الشمال إلى عاصمة البلاد الخرطوم.. لم يكن خيال ملكة يتسع لهذه المسافات الشاسعة التي يطويها القطار.النجوم تلمع في الأفق خلف زجاج النافذة الأحمر كأنها عيون تسخر من ملكة التي فرقتها الهواجس... غفت مرة أخرى ولم تستيقظ إلا على صوت حركة كثيرة خارج القطار المتوقف على ما يبدو منذ مدة طويلة.. فتحت ملكة النافذة وشاهدت مدينة حديثة وعمران يفوق تصورها.. بهرتها الأنوار الكهربائية في المحطة.. "هل هذه الخرطوم؟!".. لم تكلف ملكة نفسها مشقة السؤال. تناولت صرة ملابسها ونزلت من القطار "هنيهات وانطلق القطار مواصلاً سفره، نظرت إلى القطار الراحل في حيرة حتى غاب عن ناظرها. ثم طفقت تتجول في المحطة المكتظة بالناس وتتلفت في توجس كعادة أهل القرى عند دخولهم المدن الكبيرة. اقتربت من شاب موفور الصحة يتحدث مع فتاة جميلة في مكان منزوي، حاولت ملكة تستفسر منها إذا كانت هذه المدينة الخرطوم أم لا.
- معذرة يا أولادي.. هل هذه محطة الخرطوم.أجابها الشاب الذي استدار في دهشة بالغة.
- لا ... هذه عطبره .. الخرطوم ليس بعد.. اخطأت يا والدة بنزولك من القطار.
عقدت الدهشة لسان ملكة "يا لها من غبية، لماذا لم تسأل قبل رحيل القطار؟" .. خافت أن يخدعها أحد الخبثاء في المدينة كما تعود أهل القرى.. لكن يا لها من بلهاء فقد خدعت نفسها.. وهذا الشاب يبدو عليه الاحترام لم يقل سوى الحقيقة.. لمح الشباب الحيرة البادية على وجهها الذي كساه القنوط أيضاً، عادت الأقدار تعابثها مرة أخرى، نظر إليها في عطف مواسياً ثم التفت إلى فتاته بنظرة ذات مغزى.- لماذا لا نأخذها معنا البيت ؟!
- أجل لا بد من أن نأخذها معنا .. هذه القروية المسكينة.
نظرت ملكة إلى هذا الثنائي العجيب في امتنان. شكرت الله الذي سخر لها هذين الضيفين الودودين والقاهما في طريقها.
- هيا بنا يا أماه إلى البيت وغداً لناظره قريب.
- أسمي ملكة بارك الله فيكم ..
وتحركت معهما، لاحظت ملكة بحاسة الأمومة التي لا تخطئ أن الشاب والفتاة يعانيان من مشكلة، خاصة وأن الحزن كان يشوب صوت الفتى قبل أن تقطع لهما حوارهما بظهورها المفاجئ. انطلق ثلاثتهم خارج المحطة التي عمها الهدوء بعد رحيل القطار، كانت سيارة الشاب الحكومية تقف عن كثب، ركبت ملكة أولاً ثم الفتاة وجلس الشاب على عجلة القيادة وانطلقت العربة تشق شوارع المدينة الهادئة، ثم عبر الجسر المقام على نهر عطبره ولاحت أنوار مصنع الاسمنت لعيون ملكة مثيراً فضولها القروي.. لاحظ الشاب ذلك وتحدث باسماً.