الجزء 03

83 1 0
                                    


في ذلك الصباح المهيب، عندما تعالى صياح الديوك في مدينة أبو حمد، كانت ملكة تسير بحذاء الشاطئ في طريقها إلى داخل المدينة التي كانت تتثاءب على الأفق استعداداً لاستقبال يوم جديد، أخذت ملكة تتأمل شوارع المدينة المنتظمة ومتاجرها المكتظة بالبضائع ذات الألوان الزاهية.. محطة القطار الضخمة من أبرز معالم المدينة فهي ملتقى طرق القاطرات القادمة من الصعيد مدينة حلفا القديمة، حيث يطوي القطار صحراء قاحلة ولا تدركه مدينة إلا أبو حمد ثم يمر القطار جنوباً طاوياً المسافات إلى الخرطوم، عاصمة السودان.. كانت ملكة تسير ساهية عندما دوت فرامل سيارة مندفعة خلفها، كادت العربة تدهس ملكة، سقطت على الأرض وسط زوبعة من الغبار، نزل السائق، رجل موفور الصحة، يبدو أنه من أعيان المدينة.. كان الانزعاج بادياً عليه، انحنى الرجل على ملكة التي أخذت ترتجف رعباً أو غضباً، هل كان مقدراً لها أن تنتهي رحلة البحث عن ولدها هنا؟‍ ومن أول خطوة .. أو غرقاً بالأمس.. يبدو أن الطريق أصعب مما كانت تتصور، ركع الرجل جوارها وأخذ يربت على كتفها برفق.

- أرجو أن لا تكوني أصبت !!

نهضت ملكة وسوت ملابسها وأخذت تنضو الغبار عنها والرجل واقف جوارها وقد اعتصره الألم، نظرت ملكة إليه، تبدو علية الطيبة والسماحة لذا غيرت ملكة رأيها فقد أزمعت تلقينه درساً لن ينساه ولكن لم تتركه من عتاب.

- ماذا دهاك .. هل تقود سيارتك مغمض العينين ؟!

جاهد الرجل الابتسام وأخذ يحملق فيها في ذهول محاولاً امتصاص غضبها.

- ابداً يا أختاه، كنت في عجلة من أمري، زوجتي أدركها المخاض، وإني في طريقي لإحضار قابلة المدينة الشؤم.

استغربت ملكة من كلام الرجل ونعته لقابلة المدينة بالشؤم.

- ماذا دهى قابلة مدينتكم هذه؟!- كلما أحضرها تضع زوجتي بنت حتى غدا لدي سبع بنات ولا مولود ذكر.

- لا عليك أني اتقن مهنة التوليد ويمكنك أن تتفاءل فقط الأرزاق من عند الله...

- ونعم بالله ... ونعم بالله ..

غمرت السعادة الرجل. هذه المرأة الغريبة لا بد أن تكون ساقتها الأقدار لأجل حكمة ما، إنها تتقن مهنة التوليد، ابتسم الرجل ابتسامة عريضة وفتح لها باب العربة لتجلس جواره وانطلق بها إلى بيته العامر الذي يطل على النيل.. بهر البيت ملكة فهي لم تشاهد بيوت بهذا البهاء والاتساع.. كان البيت بحجراته الواسعة الكبيرة وأثاثه الفاخر أشبه بقصور ألف ليلة وليلة.. كانت النسوة متكومات داخل ردهات وهن ينظرن إلى حاج عثمان والمرأة الغريبة اللذين دلفا معاً داخل البهو الكبير، نظرات النسوة ملؤها الحقد والحسد ينظرن إلى الحجرة المغلقة التي ينبعث منها أنين امرأة أدركها المخاص. كانت عيون النسوة مليئة بالحقد، لأن حاج عثمان، كلهن يتمنينه زوجاً لهن حتى ولو تزوج إحداهن أو ثلاث منهن مع زوجته المسكينة المغلوبة على أمرها في الداخل.. حاج عثمان رجل ثري له المال ولكن ليس له البنون بالإضافة إلى أنه رجل شهم وفيه كل ما يعجب المرأة من مقومات الرجولة والاخلاق الأصيلة.فهمت ملكة ضمناً وهي تشق اكوام النساء العوانس الحاقدات، ماذا يعني أن تلد هذه المرأة التعسة بالداخل بنتاً أخرى ستنتظرها المعادلة الصعبة إما الطلاق أو الزواج من امرأة أخرى .. كان الله في عونها.دلفت ملكة إلى داخل الحجرة واغلقت الباب.. كانت رائحة المطهر القوي تعبق في الحجرة، نظرت ملكة إلى المرأة التي ظل انينها يطغي على اللغط المنبعث من أولئك النسوة في البهو وهن يتداولن أمرها حتى يصل ذلك إلى مسامع حاج عثمان الذي ظل كلامهن يؤخزه كوخز الإبر، فهو يحب زوجته مريم ولا يرض لها بديل، لكن من يستطيع أن يقنع أمه التي تزعمت هذا الوفد النسائي العظيم ويبدو أنها ستفرض عليه ما تريد فرضاً..في الحجرة كل شيء نظيف ومرتب، الطست المليء بالماء الساخن، الضمادات البيضاء، المقصات وأدوات القطع والخياطة، أوجست ملكة خيفة وهي تركع بين فخذي المرأة "تباً لهذا البلد اللعين.. الذي يذبح المرأة بالخفاض الفرعوني ويجعل من بوابة الخروج من ظلمات الرحم الثالث إلى عالم الشهادة صعباً وأحياناً تزهق روح المرأة قبل أن تقذف بمولودها إلى العالم، غسلت ملكة يديها بالماء الحار ومسحتهما بالزيت الذي وضع على إناء في منضدة جوارها ثم أدخلت يدها في النفق المظلم، وبرز رأس الطفل وأخيراً تمكنت ملكة من اخراجه، كتلة حمراء من اللحم مخضبة بالدماء ولا حول له ولا قوة. كانت صرخته باستقبال الحياة قوية تردد صداها في المنزل وتجاوبت معها النسوة في الفناء بإطلاق زغاريدهن الطويلة الشامتة .. غسلت ملكة الطفل في الماء الطاهر، بعد أن قطعت حبله السري، ثم اخرجته وحدقت بين فخذيه.. امتلأت عيناها بدموع الفرح وارتسمت على شفتيها ابتسامة ظفر واطلقت زغرودة جلجلت في الحجرة. ثم نظرت إلى وجه المرأة الشاحب وابتسمت لها مشجعة، كانت المرأة تهمس بكلام.. ادنت ملكة اذنها من فم المرأة.

ارجوا أن يكون ولد !!نعم المولود ذكر والحمد لله.رددت مريم في صوت واهن.

- الحمد لله .. كان سيتزوج من أخرى.

مسحت ملكة حبات العرق عن جبين مريم الشاحب مواسية لها.

- لا عليك ارتاحي الآن وقرى عيناً.. دعيني أخرج وأزف النبأ السعيد..

نهضت ملكة وفتحت باب الحجرة، كان الرجل يجوس وسط النسوة كالأسد الجريح وما أن لمح الباب يفتح حتى اندفع نحوه وواجه ابتسامة ملكة العريضة.

- مبروك .. أصبح لك غلام تفخر به.

لم يحتمل الرجل المفاجئة، طفرت الدموع من عينيه وظل يحدق في ملكة في امتنان، نظرة إنسان انقذته امرأة من مصير محتوم.. رباه من أين جاءت هذه المرأة التي تحيل كل ما تلمسه ذهباً، كان الرجل من فرط سروره يتمنى لو تطلب منه ملكة أن يحضر لها نجمة من السماء.. حتى يجزي لها صنيعها، لكنها فقط آثرت الصمت، ذلك الصمت المشوب بالحزن وطفقت تحملق في أكوام النسوة الحاقدات وقد خسر جوادهن الرهان.. كن يرمقن ملكة شذراً.. ظل الرجل النبيل يحدق في ملكة.

- انت امرأة مبروكة.. لا بد أن السماء ارسلتك لنا.

- بارك الله فيك.. أنا لا أريد منك إلا أن تأخذني إلى محطة القطار الذي يقودني إلى الخرطوم.

لمح الرجل نظرة الإصرار على الرحيل التي كانت تشع من عينيها فأذعن لها.. انطلق بها بسيارته إلى محطة القطار.. اشترى لها تذكرة في الدرجة الأولى، جلست ملكة على النافذة والرجل السعيد يحجل أمام نافذتها كالغراب، دق جرس المحطة مؤذناً برحيل القطار واطلق القطار صفيراً طويلاً وتحرك رويداً رويداً كان الرجل يسير على الرصيف بمحاذاة نافذتها والقطار تزيد سرعته تدريجياً وكأنما تذكر الرجل شيئاً.. صاح بصوته الجهوري.

- ماذا أسمي الولد؟

رفعت ملكة عقيرتها حتى يطغى صوتها على دوى عجلات القطار ونداءات الباعة المتجولين ولغط المسافرين والمودعين.

- اسموه محمد .. الله يبارك فيه.

ثم ابتعد القطار والرجل يلوح لها بكلتا يديه حتى غاب في الأفق.. استوت ملكة جالسة في الغرفة الفارهة التي أكرمها بها الرجل، انتابتها الهواجس وتوزع خاطرها بين أسرتها التي تركتها خلفها وابنها الذي أصبح في طي المجهول في الخرطوم، حيث الموت يكمن في كل مكان..ظل القطار يطوي الفلوات القاحلة، والمحطات تتوالى تباعاً وعجلات القطار تثير في دورانها الحصباء والغبرة. أغلقت ملكة النافذة و أغمضت عينيها.

يتبع....

الساقيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن