كانت رائحة البرسيم تعبق في الجو في ذلك الصباح المهيب وملكة تعزف في حقلها بجد ونشاط. بدأ أن هذا الموسم الزراعي ناجح، جادت فيه الأرض بكل سخاء وسيكون هذا العام عام خير لأهل البلدة كافة.. جلست ملكة تلتقط أنفاسها تحت شجرة الحراز الضخمة وعن كثب منها كان الحمار المكتنز يعتلف من الحشائش المنتشرة على حافة الجدول الكبير الذي يمر بجميع حقول البلدة.لا زالت ملكة تذكر لعدة سنوات مضت عندما حضر وفد الحكومة ولأول مرة ترى رجالات الحكومة الجديدة آنذاك كان يرتدون البدلات العسكرية الخضراء الجميلة التي تزينها النياشين والأنواط.. هؤلاء أعضاء "مجلس قيادة الثورة" .. كان الحماس يتدفق من أحاديثهم والإصرار يلمع في عيونهم. كرمهم أهل القرية بالذبائح والزغاريد عندما حضرت عربتهم العسكرية تشق طرقات القرية الضيقة المتربة.. الرجل الوحيد الذي لم تعجبه تلك الزيارة كان حاج إبراهيم، ما فتئ يلعنهم وينعتهم خفية بالكفار والملاحدة.. وفي المجلس الكبير الذي ضم أعيان البلدة ورجال الحكومة تقرر أن تزود البلدة بوابورات لسحب المياه وشق ترعة رئيسية بدلاً عن طريقة الري بالساقية القديمة والتي أذل بها حاج إبراهيم أهل البلدة فهو الوحيد الذي يملك ساقية، كان يبيع لهم الماء، يعطي من يشاء ويحرم من يشاء ولم تصدق ملكة أن هذا الحلم تحقق آنذاك، ما أن أنصرف رجال الحكومة الجديدة الممتلئين بالحماس وسط زغاريد النساء وأهازيج الأطفال.. بعد أيام قلائل حتى حضرت الشاحنات الكبيرة تحمل هذه المردة الحديدية التي يتدفق الماء منها كالشلال وأصبحت ملكة تنظر إلى أبعد ما تستطيع ولا تجد حداً فاصلاً بين حقلها الممتد والسماء "بارك الله في هؤلاء الرجال أصحاب البدلات العسكرية التي تزينها النياشين والأنواط تحدثوا قليلاً وفعلوا كثيراً " .. قطع ظهور الأولاد حبل أفكارها كانت أقدامهم الصغيرة تتعثر وهم يشقون الحقول تحت وطأت ما يحملونه من طعام وحفاظة الشاي إلى أمهم الحبيبة، ابتسمت ملكة عندما طاف في ذهنها المستقبل المشرق الذي ينتظر هؤلاء الصبية في ظل الثورة الاشتراكية.. ها هي القرية قد انتعشت وازدهرت في فترة وجيزة وأول الغيث قطرة. جلس الأطفال حول أمهم وبدأو في تجهيز أواني الإفطار.. وارتفع نهيق الحمار معلناً بدأ الفطور والتفت ملكة إلى الأولاد:
- ما الخبر يا أولاد هل استيقظ والدكم؟
قالت ملكة في استياء فهي تعرف ماذا يعني أن يستيقظ محمد أحمد.
- نعم استيقظ واعلن أنه ذاهب إلى السوق بعد إثارة ضجيجه المعهود وتعليماته التي لا تنتهي.
كان رد شريف بمثابة إنذار لملكة بأن محمد أحمد يعتزم أمراً جللاً، فزياراته للسوق طابعها دائماً الإثارة، فأنبرت في حدة :
- ماذا يريد من السوق؟!
- لديه جولات تمر يزمع بيعها وهي في مخازن حاج إبراهيم.