مدينة الخرطوم، غابات من الأسمنت.. المدينة التي تشبه جلد الفهد.. مناطق بيضاء مشرقة ومناطق سوداء قاتمة، الثراء الفاحش والفقر المدقع يفصل بينها خيط واهي.. الدور الفخمة التي يسكنها كبار رجال الدولة وبطانتهم من الأثرياء الطفيليين اللذين نمو كالنبت الشيطاني في تلك الحقبة الكالحة والتحول الكبير إلى الأسوأ.. الاكواخ المنتشرة للنازحين من الغرب والشرق نتيجة لكارثة الجفاف والتصحر التي قضت على الأخضر واليابس.. أقاموا في معسكرات النازحين في هوامش مدينة أم درمان، بعضهم يمتلك كوخاً من الخيش والكرتون والبعض يفترش الأرض ويلتحف السماء، سوء التغذية السمة البارزة وسط الأطفال اللذين تتدلى كروشهم وتلمع أعينهم ذكاء.. أما أبناء الجنوب الأكثر تعاسة، اشتعلت الحرب الأهلية من جديد نتيجة لعبث السياسيين القذرين بعد أن ارتدت الحكومة ثوباً جديداً آن ذاك.. تجمعوا أيضاً في معسكرات بائسة في الخرطوم، غابات من الأسمنت انتقل إليها الانسان بكامل موروثه الحيواني.. إنها الأنظمة الشمولية التي تخرج اسوأ ما في النفس البشرية.. الحافلات المكتظة بالركاب كعلب الكبريت في ذلك الجو القائظ، عربات كهلة تجاهد في طرق الخرطوم وشوارعها منذ عهد الاستعمار تقل الركاب من قلب الخرطوم إلى الضواحي البعيدة.. وفي نفس الوقت العربات الفارهة من فصيلة المرسيدس حكومية أو غير حكومية تنهب الطرقات بكميات يخطئها العدد.. الدراجات النارية تعوي تعلن عن ضيف جاء إلى البلاد أو مسئول خرج من البلاد.. ضجيج.. ضجيج ولا نرى طحيناً.. رجال الأمن يداهمون الأحياء الفقيرة بحثاً عن المنشورات.. طلاب الجامعات يحرقون الإطارات، يعلنون رفضهم للبنك الدولي وسياساته المدمرة كان هذا في بداية الثمانينات.. الجوع يزحف بإصرار نحو السواد الأعظم من الناس، تفشت الدعارة السرية وجميع الأمراض الاجتماعية التي تنجم من مثل هذه الأوضاع.. البنوك التجارية المشبوهة نمت كالأورام السرطانية واستشرت في العاصمة وكل أنحاء البلاد.. وأخذت تمتص عرق ودماء المزارعين.. استنفذ أهلنا في الغرب ما في بيوت النمل من حبوب ونزحوا صوب أم درمان ينتظرون الموت البطيء فقد كان الموت الوسيلة الوحيدة للهروب.. كانت الخرطوم فعلاً أشبه بجلد الفهد، بقع بيضاء وبقع سوداء والساقية طاحونة الأنين تدور.هذه هي الخرطوم التي دخلتها ملكة لأول مرة في حياتها بحثاً عن ابنها صابر.. ظلت سيارة الأجرة التي اقلتها في موقف الباصات تشق طرقات الخرطوم، كحلت ملكة عينيها بكل هذا التناقض العجيب للعاصمة السودانية آنذاك.. توقفت السيارة آخيراً أمام مكتبة فخمة بشارع الحرية وأشار السائق لها بالعنوان.
- هذه مكتبة دار الفكر.. حسب العنوان.
نقدت ملكة السائق أجره واستدارت منطلقة بخطى واثقة إلى داخل المكتبة حيث كان يجلس رجل في العقد الرابع من عمره وسط ارتال الكتب يدون في مفكرته أرقاماً، يبدو عليه الاهتمام الشديد، حيته ملكة في أدب.