الجنون بصورة مختلفة

34.2K 902 56
                                    

في أحضان الغابة، يومض الصمت في أرجاء المكان، والأشجار النحيلة تمتد كحراس شامخين. عتمة الليل تظلل الأفق، والساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل. في هذا الكوخ القديم، الذي يكاد ينزوي تحت وطأة الزمن، تتدثر الفتاة بمشاعر الغفوة على أريكة متهالكة، بينما يعدو خيالها بعيداً في عوالم من الأحلام. خصلات شعرها الطويلة تتخللها أشعة القمر الناعمة، راقصةً وكأنها تخشى بصمت أن تستفيق من سباتها.
لكن في زاوية أخرى من الكوخ، هناك شاب يجلس، يتأملها بنظرات تتأرجح بين الشغف والمكر. كان الدخان يتصاعد من سيجارته، تنبعث منه رائحة فريدة تطغى على الهواء العليل. ابتسامة عريضة منحت وجهه سمة من الوهن، بينما كانت عينيه تعكس لظى الانتقام والتشفّي. لقد أتى بها إلى هنا، محققاً غايته، لكن بمرارة فشلٍ غير معترف بها، ينتظر لحظة استيقاظها، تلك اللحظة التي تحمل الأمل والقلق في آن واحد.
في خضم هذه الأحداث، انحسر الفضاء حوله، ليعيده إلى تلك اللحظة الفارقة التي اختطف فيها سلام، صورة محفورة في ذاكرته وكأنها مشهد من فيلم محرم يعيش فيه بطل مكسور.

عودة في الذاكرة:

عندما صعدت سلام إلى السيارة، لم تكن تدرك أن القدر يعبث بخيوط حياتها بحرفية متمكنة. كانت في حالة من الشرود، تنظر إلى الطريق المندمج في حالة من البرودة الفاترة. صديق رائد كان يقود السيارة، وكانت نظراتها تسقط عاجزة أمام شرور العالم الذي كان ينتظرها بحافة الانتظار.

"عذراً، يا آنسة، ولكن الهاتف ممنوع هنا"
قال زاهر بصوت هادئ لكن يحمل في طياته تهديداً خفياً.

استدارت سلام برأسها، يحاوطها الشعور بالاستنكار والامتعاض:
"وما شأنك أنت، أريد أن أستدعي زوجي!"
ردت بنبرة تحمل الغضب.

ابتسم زاهر ابتسامة مشوبة بالكيد:
"بعد قليلٍ ستفهمين، لن تعودي بحاجةٍ إليه بعد الآن"
كلماته كانت كالسهم، تخترق حدود الأمان في قلبها.
وعلى الرغم من انفعالها، علمت أن ردة فعله كانت محض خديعة وتهويل. قلبها كان يدق بعنف، كأنما ينذر بقدوم الكارثة. كان يتمتع بخواء اللحظة، وهي تعاني من فقدان السيطرة.

"أنت.. إلى أين تأخذني؟ هذا ليس الطريق إلى بيت حياة، أتحسب أنك جننت؟"
تساءلت سلام بصوت يشوب شغف الخوف الذي يدغدغ حواسها.

ابتسم بشكل فاتر:
"لا، يا سيدتي، لم أجن، ولكننا في الطريق الصحيح. انتظري قليلاً، وستظهر لك الحقيقة بوضوح."

لم تستطع سلام كتم مشاعر الامتعاض، بينما الكوابيس تبسط أجنحتها حول عقلها المصدوم:
"أنت أحمق، سأخبر زوجي وأشكيك لصديقه وللشرطة!"
تمتمت دون وعي، تتحرك كقطعة شطرنج على رقعة شطرنج مظلمة.
تزايد قلقها مع كل دقيقة تمر، فارتجف قلبها. هي خارج المدينة، محاطة بأشجار شيطانية تبدو كأنها تنسج مصيراً جديداً، تنبض بالخيبة. أدركت فجأة أنها أصبحت فريسةً في عالمٍ قاسٍ تُحركه الأقدار.
بدت الرحلة كأنها تأبيد للمعاناة، بينما زاهر يحاول كبت ضيقه، مستشعراً أن كل لحظة تمر تُقربه من عقاب أُمْرَت به الأحداث. تمتم بقلبه العد التنازلي الأليم بينما كان يشاهد لمحات الخوف في عيني سلام.

أحببت معذبي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن