فليكن الأثر

32.9K 905 109
                                    

عندما يرتسم الفراق في الأفق، تبكي العيون وتغرق المقل في بحور من الدموع، وكأن القلوب تخاطر بالحياة في نهر من الألم. يختلط الفراق باحتضان طويل، تنفصل الأجساد لكن الأرواح تبقى ملتصقة بخيوط الحب العتيقة. وفي خضم هذا العذاب، ماذا نقول عن تلك الأنفس التي تبكي دون أن تتفوه بكلمة وداع؟
هل تكون النهاية حقاً وداعاً؟
ليس كل الفراق يحمل طابع الوداع، وليس كل وداع يعكس الفراق. بل إن الفراق الحقيقي يمسّ أعماق القلوب، والوداع هو أسى المشاعر التي تنسحب عندما يصبح الدواء مجرد أداة تخدير بعد سقوط الجرح. إنه لحظة تَلاشي الأجساد، وذلك بينما تبقى القلوب محبوسة في أمكنة الذكريات، تبكي الوجوه وتختبئ الدموع في كهوف الشعور القابع في الأحشاء.
ذُهل الشاب عندما طال به الحزن، فقدت حياته نكهتها برحيل زوجته وحبيبته. ثلاث سنوات، والوقت يمر ببطء كأنه دهر، فقد تخرّب عالمه، واستنزف كل سعادة كانت تحت مظلة الحب. مرّت أيام وليالٍ مليئة بالعذاب؛ إذ حطّ عليه الفقد كالعاصفة، فازداد بروده، وتراكمت الأحزان في زوايا قلبه. فقد فقد الرغبة في الحياة، وسكن اليأس في عينيه، لتصبح كل لحظة تمر كالعمر بأسره.
لم ينسى ذلك اليوم حينما حَزَمت أغراضها ورحلت، حيث لم تسعها كلمات اعتذاره وصراخه، فقد كانت امرأة مُصممة على قرار الانفصال. أبت رضوخ آلامه، وكأنها قد رحلت إلى أرضٍ لم تطأها أقدام القلب من قبل. طلبت الطلاق مراراً، وأرسلت له رسائل عميقة تدعو إلى الفراق، ولكنه رفضه كان قاطعاً. رفعَت دعوى في المحكمة، ومع ذلك، كان إصراره صامداً كالجبل.
لقد حاول بائساً أن يجد سبيل عودتها، لكن كل مساعي اللقاء باءت بالفشل، فعاد إلى حياةٍ مظلمة، يخالط النساء، يبحث عن ملامحٍ تشبه معرفته القديمة، وكأن كل امرأة تشبه ظلال حب حياته. كل عناق كان مجرد فرصة لنسيان ذكرياته المؤلمة، وفي كل الليالي، احتضن قلبه ملامح مختلفة، لكنه لم يكن سوى شبح يلاحق الظلال.

وفي ذروتها، كانت البراعم الحزينة تنمو في فؤاده، جعلها تلهبه بنيران الأمل المفقود. سفرها لبلادٍ بعيدة حجب عنه كل ما كان يحلم به. عجز عن الوصول إليها، وكلما ازداد بحثه، كانت تنسحب أكثر، تاركةً خلفها فراغاً وغموضاً. لكن حياتها لم تتمحور حوله، حيث تكرر ظهور المدعوة تُدعى رهام، تلك التي نمت من أوهامها، محاولة للإغواء والاستفزاز، غير مدركةٍ أن روحاً جريحة لا تنتعش بسهولة.
لكن رغم محاولاتها المتكررة، صرخات نبضهِ كانت تنفضها بعيداً، يقذف بها خارج نطاق راحته، إذ لم تكن سوى ذكرى اختارت أن تتجسم باستعارة الألم. تلك التي كانت سبب فراقه عن حياة، هي التي عادت لتقلق كينونته. رهام، بحملاتها العقيمة، اعتقدت أنها تستطيع طرق باب قلبه، لكنها لم تدرك أن قلبه، وحيداً ودميماً، قد ترك تلك الأبواب مغلقة في وجه كل من لا يملك مفتاح الحب الحقيقي.
للأسف، حتى تبريراتها المُهزوزة حول فرض الأهل وترتيب المصير لم تُعتد من قبله، إذ لم تكن تمنياته بها أكثر من عواطف مُحبَطة. فقد سفحت سعادة الماضي، وعاد إليه شعور فقدان الحياة الخاصة، فقط ليجد نفسه غارقاً في ذكرياته المريرة.
حياة، كانت حباً حقيقياً، لكنها قد أصبحت جزءاً من ماضيه، وها هو يعيش في عتمة الوحدة، تأنّ روحه باسمها. لقد حصد ما زرعته تلك الخيارات، مرفوع الرأس أمام الأشباح التي تجوب أرجاء ذاكرته. قلبه يناديها، لكن لا وجود لها سوى في عمق الصدى الذي يرحل في العدم.

أحببت معذبي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن