سلسلة من الأوجاع

33.3K 930 63
                                    

تصاعد نبضها كعاصفة عاتية حينما انبلج صوته عبر الهاتف، كان كالشمس التي تشرق في قلوب المحبين بعد ليالٍ من الظلام. دقات قلبها المتعاظمة بعنف، كادت تخترق صمت المدينة الخارق، لتهزه من سُباته. ولكن لم يكن هنالك ردٌ يأتي من خلف الخط، وبتعجب حاجبيه يتقاطعان في حيرةٍ جعلته يكرر بصوتٍ مفعم بالقلق:
"من معي؟"

يا إلهي، كم كانت تشتهي سماع ذلك الصوت الأجش الذي يحمل بصمة تعبه، فتعلقت به كطفلة تهيم في فكر والديها. ابتلعت ريقها، لكن اللغة خانتها، فخرجت الكلمات بصوتٍ يرتجف ولم يكن سوى همس باكي:
"حبيبي، ينال."

فور سماعه لصوتها المُتعب، انتفضت أعضاؤه واعتدل جالساً، بينما تسارعت أنفاسه، وصدى قلبه يطرق بعنفٍ كطبيعة عاصفة لا تلبث أن تشتعل. تحدث بصوتٍ متلهفٍ وقد أُغرق بالشوق:
"سلام، حبيبتي، هل هذه أنتِ؟ أين أنتِ ياقلبي؟ قولي لي، سأذهب إليكِ الآن."

انتفضت مشاعرها وهي تحاول التماسك، لكن كلماته لم تكن كافية لتهدئة العاصفة في صدرها. بتلك النبرة المحطمة، تابعت في بكاء:
"صدقني، لا أعلم. رائد هو من اختطفني، أنا في مكانٍ بالغابة، ولا أعرف أيّ غابة."

شعر بفزع يتآكل بجسده، ارتجف قلبه لمجرد سماع نبرتها المُفزعة، محاولاً أن يكتشف حوله خيوط الأمل، وهمس:
"حبيبتي، حاولي أن تصفي لي المكان."

شهقتها كانت بمثابة صرخات من عمق الوجع، وجسدها يختزل قدراً كبيراً من الألم، حولت كلامها إلى كلمات جافة:
"لقد أخذني إلى كوخٍ صغير ومهجور في وسط الغابة، ولكن لا أعلم أين الموقع."

تنهد مع شعور خفي من الأمل المقرون بالخوف، فقال بسرعة، لكن بصوتٍ مليء بالوعد:
"حسناً، لا تقلقي، حبيبتي، سأعيدكِ إلي، صدقيني، ولكن هل أذاكِ؟ هل لمسكِ؟ تحدثي، سلام، أرجوكِ".

احتدم بكاؤها الخافت، كأنما كانت تخبره كل ما ترك في قلبها من آلام، وواصلت بعبءٍ ثقيل:
"لقد ضربني كثيراً، ولكنه لم يلمسني. إنه يريد أن يطلقني منك ليتزوجني، أرجوك ينال، لقد مللت من هذا الألم، أعدني إليك أرجوك."

تفتح قلبه كزهرةٍ من جليدٍ في زهر الربيع، ووراء تلك الألوان القاتمة، تكاثرت مشاعر الكراهيّة تجاه هذا الشاب اللعين الذي لا يرى فيها سوى لعبته. استحكمت أنفاسه، حتى انحدرت دمعة غير مرئية على خده، كيف لابنته المدللة أن تتعرض لهذه المعاملة، قلبه ينفطر لمجرد التفكير في ذلك. حدثها مُهدئاً على رغم الشوق المُلتهب:
"حسناً، حبيبتي، صدقيني، سأعيدكِ إلي، سأبلغ الشرطة وسآتي إليكِ، لا تقلقي، ياقلبي، سآتي."

عجبت الأرض حوله من غموض الجواب الذي لم يُسمع، ولم يشعر بأي انطباع للراحة، حتى صرخ باسمها وكأنه ينادي روحاً فقدت في غياهب عتمة. لكن لا شيء جاءه من بعيد سوى صدى الأنين المنقوص. زاد الارتجاف في قلبه مع تلك الفكرة التعسة، بلَّ الذعر بوجود رائد حولها لتقطع مكالمتهما. حاول الاتصال مرةً أخرى، لكن الخط لم يعطِه ما كان يتوق إليه؛ كان الصوت يشير إلى أن الرقم خارج الخدمة.
جن جنونه، فصرخ واضعاً نفسه في عاصفةٍ من اليأس، يركل كل ما حوله، قلبه ينفطر من الألم. وعندما اقتحمت والدته الغرفة بفزع، كانت الدموع تنحدر على وجنتيها بغزارة، وهي التي لم تكن تعرف أن جنونه كان نابعاً من أنين زوجته الصغيرة التي فقدت في خضم الأحداث. استحضر إحساس قوي بالفقد واليأس، وهي تتأمل حالته المشتتة.
جلست بجانبه، وضعت يدها الرقيقة على كتفه، تكاد تتفكك من الموقف، لكنها حاولت أن تهدئه قائلة بين دموعها:
"اصبر، بني، اصبر، وستجدها. لا تقلق، ستعود إليك."

أحببت معذبي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن