الجزء الثاني

74 4 1
                                    


حاولت تجميع ما حولي، شخص غريب يطلب مني الذهاب معه .. أو الضياع معه كما يقول. ثانياً لا أفضل التغيب عن عملي البتة، لست من الذين يجعلون وظيفتهم من أولوياتهم لكني لا أحب أن أكون مهملة أو أكون من المقصرين. في الثلاثة سنين الأخيرة لم أتغيب عن عملي سوى أربعة أيام، كنت في معظمها مريضة.
قاطع حبل أفكاري قائلاً: هيا .. سيكون يوماً مميزاً
أرجعت خصلات شعري البني القصير خلف أذني اليمنى و قلت: حقاً، أواثق من ذلك؟
نظرت إليه ثم قلت بتردد: حسناً.
امسك بيدي و هو ينهض من مقعده: هذه المحطة .. هيا
شعرت بإحساس غريب داخلي، كانت يده باردة لأول وهلة لكن سرعان ما شعرت بدفئها. وقفت سريعاً دون قول أي شيء آخر، تخلصت من كوب قهوتي الفارغ في الحاوية عند باب الحافلة و فعل هوا كذلك. توقفنا في شارع بسيط سكني تحيط به المنازل الصغيرة و فيه بعض المحلات الصغيرة أظن أن أحداها محل لخياطة البدلات. كانت هناك حديقة عامة في جهة محطة الحافلات التي توقفنا فيها، كانت أرضها خضراء و الأشجار حولها تغطي الممرات بها.
لاحظت أنه كان لا يزال يمسك بيدي انتبه لي ثم تركها وقال: أتحبين المغامرات؟
وجهت نظري إليه كانت ملامحه واضحة في أشعة الشمس الأن، لم يكن شعره أسوداً كما رأيت سابقاً بل كان بيناً و عيناه لا تزال بينتان لامعتان. كان أنفه مستقيم و متوسط الطول، أما عن جبينه فكان واسعاً و شفتاه ضيقتنا مقوستان للأسفل و ذقنه بارز.
قلت بحيرة: و لما لا؟
- إذا لنبدأ من هنا.
كان يشير إلى الحديقة فقلت: أعتقد أن هناك نهراً صغيراً قريبا من هنا.
اقترب من أذني و همس: لا تفسدي المفاجأت بالتوقع.
أبعدت وجهي عنه بتفاجأ وقلت: حسنٌ حسنٌ
قال بتردد: هل ضايقتك؟
أزعجني اقترابه وليس هو لكني ابتسمت : هيا بنا..
تقدمت بخطواتٍ بطيئة ثم التفت: هيا
كان لا يزال يقف في مكانه لكنه ابتسم راداً على إبتسامتي.. صار يسير بمحاذاتي متجهين إلى الحديقة. كلما أقتربنا كلما زادت رائحة العشب في أنفي، دخلنا في ممر الحديقة و صارت الأشجار تحجب ضوء الشمس فأصبحت الإضاءة خافتة. قلت: إذا ما الذي أكتشفته من نفسك حتى الأن؟
همهم ثم أجاب: إن كنت أبحث عن شيء مجهول، فكيف لي أن أعلم إن وجدته أو لا؟
صمت قليلاً أفكر وقلت: سام كل شيء مبعثر هنا، كل شيء فوضوي.. ربما عليك أن لا تبحث عن ذاتك هنا. ابحث عن نفسك داخل روحك ربما يجدي أكثر من أن تبحث عنها في حطام، و ستعلم أنك قد وصلت لهدفك عندما يأتيك ذاك الشعور الذي يخبرك بأنك يقظ و عيناك مفتوحتان على مصرعهما..
سكت لأكمل حديثي: و حينها ربما سترغب أن تعود إلى ما كنت عليه، بعيداً عن كل هذا الوضوح المُمرض .. لا أنفي أن الوضوح أمرٌ جيد و لكن عندما ترى كل شيء .. سترى ما لا يسر عينيك.
- لماذا تقولين ذلك؟
نظرت إليه ونحن نسير بخطوات متقاربة صغيرة كان وجهه مليئاً بالتساؤلات، و متعطشاً لجواباً يلملم شتات أفكاره. لكن صدقاً لا يوجد جوابٌ شافي و لكن هذا هو ما عليه عالمنا، قررت بأن أساعده على فهم نفسه أكثر و أن اتجنب الجواب فقلت: قلي أنت ما رأيك؟
غطا عينيه بكلتا يديه ثم مسح على وجهه في حيرة من أمره، ثم قال بصوت منخفض يكاد يشبه الهمس: لا أعرف .. لا أعرف حتى أن كنت أعلم أي شيء ..
جال بعينيه حول المكان و كنت أراقبه، أعلن و هو يشير إلى اليمين: هناك .. ذاك النهر
كان النهر صغيراً جارياً تحوطه الأشجار و هناك كراسي خشبية موزعة على طرفيه، كانت أشعة الشمس منعكسة على المياه الصافية و لم يكن عميقاً بل كان القاع يرى بدا كل شيء مثالياً.
قلت بنصر: أخبرتك
أتبع كلمتي تلك قائلاً: لا تزالين تفسدين المفاجأت..
تحولت ملامحه فجأة إلى تلك الملامح المجنونة التي رأيتها و نحنا في الحافلة، علمت حينها أني لن أحب ما سيتبعها.
قال حينها بنبرة أختلفت عن النبرة اليائسة سابقاً: تعالي ننزل إلى المياه..
قلت بتعجب: إلى الماء؟
لم أكن ارتدي الثياب المناسبة لمغامرة اليوم ، كان علي تنورة سوداء تصل إلى ركبتي و معها قميصٌ أخضرٌ داكن اللون و طويل الأكمام و فوقه معطف أسود خفيف الخامة يصل إلى خاصرتي، أما عن حذائي فكان حذاء شبه رياضياً أبيض اللون.
ترددت: بملابسي هذه؟
- مغامرة أليس كذلك؟
كان يقول ذلك وهو يهرع بخلع حذاءه و جواربه، لم يكن يمزح أبداً .. لا أعرف ما السبب و لكن هو يشعل فتلة الجنون داخلي التي كانت في سبات عميق .. أحببت ذلك كثيراً.

تلاشي .. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن