الجزء الأول

98 7 2
                                    

لحظات و أنقذني مجييء الحافلة بعد موعدها المتوقع بعشر دقائق، لم تكن الحافلات هنا كبيرة كانت متوسطة الحجم بلون أبيض كتب عليها بخط أحمر كبير في منتصفها "النقل العام".
انتظرت نزول الراكبين لم أكن أنظر إليهم بتمعن كما أفعل عادة، لقد أردت فقط الذهاب من هنا. كان السائق مألوفا لي كان رجل في الخمسين من عمره كان أبيض الشعر، القيت عليه التحية و قلت: تذكرة إلى شارع جورج كلنتون إذا سمحت.
أومأ لي برأسه ثم أردف: ٤ دولارات من فضلك.
ناولته النقود ثم وجهت نظري إلى المقاعد الحمراء الجلدية كان الصف مكوناً من أربعة مقاعد يفصل كل مقعدين ممر ضيق يكفي لعبور شخص واحد. وقعت عيناي على كرسيان في الصف الثالث و كانا خاليان، قمت بأختيارهم حالاً. لا أفضل حقا أن أجلس بجانب احدهم، أفضل مراقبة من حولي على تلك المحادثات السطحية الصغيرة التي يقوم بها الغرباء عندما يجلسون بجانبي.
فجأة سمعت أحدهم يصرخ خارج الحافلة: انتظر .. من فضلك .. انتظر.
كنت أجلس بجوار النافذة على الجهة اليمنى، و الصوت قادم من الجهة اليسرى فنظرت من خلال النافذة المقابلة لي. لم تمر ثوانٍ حتى تعرفت عليه، كان نفسه الشاب الذي تجاهلت ابتسامته قبل دقائق معدودة. صعد إلى الحافلة و يجمع أنفاسه حاملاً كوب قهوته ، صعد إلى الحافلة و اشترى تذكرته ثم وقف يجول بعينيه باحثاً عن مكان. همست في خلدي: أرجوك لا تجلس بجانبي، أرجوك أرجوك.
كان لا يزال هناك العديد من المقاعد الشاغرة، اشحت بنظري بعيدا. لست من الشخصيات الخجولة حقاً، لكن فعلت ذلك فقط لأن لا يجلس جواري.
سمعت صوتاً عميقاً: هل يجلس أحد هنا؟
نظرت نحوه و رأيت عيناه أخيراً كان لونها عميقا كالمحيط، لم تكن زرقاء بل بنية تحكي خلفها ألف قصة.
قلت سريعاً: لا
كانت الفكرة الوحيدة التي تتوجد في ذهني تقول "من يسأل إن كان مكان أحدهم في الحافلة؟"  ثم واتتني تلك الفكرة التي أشعرتني بالندم لأني لم أجلس في المقعد الخارجي لكي أمنعه من الجلوس بجواري.
جلس على الكرسي وقد بدأت الحافلة بالتحرك فقمت ارتشف من قهوتي، لقد بردت كثيراً الأن. لم أكن أنظر إليه حقا لكنه جذب نظري إليه مجدداً عندما قال: سام دينس.
نظرت إليه وقلت بعفوية: آبيغال.. آبي.
- يبدو أننا نلاحق بعضنا الأخر.
قلت باستعجاب: أنا؟ لا كنت فقط اتأمل من حولي.
ضحك قائلا: أوه حقاً إذا يبدو إني أنا المُلاحق الأن.
رمقته بنظرة إستفهام، عرفت ذلك عندما قال سريعاً: كنت أمازحك.
ابتسمت ببرود أو ربما كانت ابتسامتي بلهاء على الأغلب، سألني: إلى أين؟
لم أفكر كثيراً: إلى العمل
- اين تعملين؟
- أهذا إستجواب؟
أمال احد أطراف شفتيه و قال: ربما
-  ماذا تعمل أنت؟
- ضحك بخفة ثم أجاب: لا أعمل حالياً.
قلت باندفاع لاحظته بعد أن نطقت بالسؤال: ألذلك سبب؟
أجابني بسلاسة لم يشعرني أني دسيت أنفي فيما لا يعنني: أردت التوقف عن العمل لصالح غيري، أردت التوقف عن تجاهل نفسي عن تجاهل أفكاري .. أردت إيجاد ذاتي.
همهمت رادفة: ماذا تعني بإيجاد ذاتك؟
- حسنٌ تلك قصة طويلة، كنت يوماً في عملي مشرف على شؤون الموظفين في شركة صغيرة، و سألني زميلي إن كنت أفضل أخذ إجازة بحرية أو جبلية.
سكت قليلاً ثم أكمل: عندها أردت أن أقول إجازة على البحر، لكني في الوقت ذاته لا أعرف حقاً ما أفضله.
قاطعته: هل جربت إحداها؟
تنهد قائلا: نعم كلاهما، مرات عديدة لكن لم أعرف أيهما أفضل .. أيهما سيمنحني شعوراً أفضل. عندها تأملت كل حياتي و صدمت بحقيقة إني لا أعرف عن نفسي نصف ما أعرفه عن موظفي الشركة، و هذا ليس عادلاً البتة.
- ثم؟
- ها أنا هنا، في الحقيقة سأذهب اليوم إلى الشاطيء لأراقب غروب الشمس.. بعد أن أستكشف المدينة أولا..
- إذا لست من هنا؟
قال بتفكر عميق: لا أعرف من أين أنا؟ كيف نعلم أننا من هنا أو أننا ننتمي إلى هناك أو إلى أي مكان؟
- لأصدقك القول، الإنتماء أمر مبالغ فيه.. لسنا ننتمي لمكان واحد نحن نتمي إلى الأرض فكل قطعة منها هي الملجأ و المنزل لأرواحنا.. و لكننا لا نزال نريد أن ننتمي لمكان لأننا ببساطة ضائعون ولا نعرف من نكون. نحن ننتمي لأنفسنا و أنفسنا ننتمي إلينا.
ابتسم ثم همس: تفكير عميق..
نظر نحو الطريق ثم قال وعيناه توحي بأنه يفكر: في أي محطة ستنزلين؟
- جورج كلنتون
نظر حوله مجددا ثم قال: بعد محطة إذا.
حول نظره نحوي في حركة سريعة و قال: تعالي معي..
تفاجأت قائلة بإرتباك: لكن إلى أين؟
قال دون تردد: لنضيع هنا.. الأن.

تلاشي .. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن