الجزء الرابع

48 3 0
                                    

كنت صامتة طوال الوقت أتجنب النظر إلى يدي الغريبة، لم أكن حتى أرغب بالتفكير أيضاً فكل ما قاله لم يتكون بصورة مفهومة في ذهني. نحلم؟
كنا جالسين في مقعد الانتظار في محطة الحافلات للمرة الثانية اليوم. كان هناك فتاة مراهقة تقف في المحطة بعيدة نوعاً ما عنا، كانت ترتدي سماعات في أذنها و كانت موسيقى الروك التي تسمعها مسموعة لنا ليست الكلمات واضحة مجرد الضجيج فقط. لم تكن ملابسها تعطي ذوقها في الموسيقى، كانت ترتدي ثوباً أصفراً أنيقاً يصل لركبتيها و معه كعبٌ أسودٌ جلدي متوسط العلو. لم تكن قريبة منا لتسمعنا، لكني قلت بصوت منخفض: هل تعتقد أنها في الثانوية؟
نظر إليها بتفحصٍ لبرهة ثم أجاب: ربما
ثم سأل: لما؟
قلت بإبتسامة خجولة: أحب ذلك، تخيل حياة الشخص و ما حوله.
كان يجلس يقابل الشارع لكن حينها التفت بجسده كله لي وقال: أهذا ما كنتِ تفعلينه حين كنتِ تتأمليني في المقهى؟
ضحكت قائلة: هل انتبهت؟
أحببت أنه جعل الأمر عادياً و ذكره، أحببت أيضا شفافيته تجاه كل شيء و كيف يتحدث معي بعفوية. كنت أريد أن أسأله بما يشعر عندما يكون معي؟ لكن أحسست أني أريد معرفة ذلك في نهاية اليوم أو المغامرة كما يسميها هو.
اقتربت منه و همست: أهي هاربة من مدرستها؟
قال: هممم ربما ولكن إلى آي حفلة هذا الوقت؟
كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً و معظم المدارس في هذه المنطقة تنصرف في الساعة الثالثة.
قال بعدها: ربما حفلة في مدرستها.
أردفت: لم أفكر بذلك، فلنقل إذاً إنها عائدة لمنزلها؟
قال بحماس: هل تريدين التأكد من ذلك؟
قلت بمطاوعة: كيف ذلك؟
نهض مسرعاً متجهاً إليها ففهمت سريعاً.
رفعت كلتا يداي نافية: لا لا.
لم يبدو أنه سمع ما أقول أبدا، سار يمشي بخطوات أبطأ ثم أشار لها بيده بادرت هي بخلع سماعاتها. ثم رأيته يتحدث معها لم اكن قادرة على سماع ما يقول، و لكن لم يبدو على الفتاة اي علامات استغراب. ضحكت فجأة و أخذت تتحدث بدورها، أطرق برأسها ثم قال بضع كلمات و رأيته يودعها. عاد إلي و على وجهه إبتسامة نصر، كان يبدو وسيماً جداً هكذا.
قال وهو يقترب مني: حسناً حفل موسيقي في مدرستها، انتهى باكراً و سوف تعود للمنزل.
كانت إبتسامة عريضة تعلو وجهي و هو ينقل لي التقرير، وقف أمامي و كانت ركبتي تلامس ساقيه شعرت بوخزة في قلبي. قلت بعدها: لا أصدق أنك فعلت ذلك، لا أعرف كيف فعلتها.
مد يداه أفقياً بفخر و قال: كان سهلاً جداً.
نظرت إلى يميني وقلت له مازحة: يالك من متغطرس جداً.
قلت حينها: أجلس هيا.
ابتعد قليلاً و جلس جواري قائلاً: بما تفكرين؟
ترددت قليلاً الفكرة فقط لأن الفكرة لم تكن منظمة في ذهني ثم قلت وأنا أنظر إلى عينيه: بخصوص ما قلته سابقاً.. أننا نحلم.
كان النظر إلى وجهه مريحاً جداً، بالرغم من كل هذه الزوبعة اليوم.
- أنها مجرد نظرية تشرح كل شيء.
جلت بعيني حول المكان و قلت بتفكر: أتعتقد اننا في حلم واحد سوياً؟ أيحدث هذا حقاً؟
قال في حيرة: ربما .. يبدو كل شيء حقيقياً بالنسبة لي.
نظرت إلي متسائلة: لماذا إذاً هذا هو الحلم الذي جمعنا؟
قال حينها معقباً: كما قلت أنت سابقاً لا داعي لأن نرى كل شيء بوضوح، فلنحلم فقط.
كان يقول ذلك و قد وصلت الحافلة، كنت أفكر ما إن كان حقاً قد اقتنع بكلامي و هو يقتبس منه.
صعد كلينا إلى الحافلة ثم طلب تذكرتين من السائق إلى ودج قريت. أخرج هو محفظته لكني سارعت أنا أيضاً بإخراجها لكنه أبعد يدي بيده اليسرى و قال: لا عليك.
ثم أخذ نقوداً من محفظته و أعطاها للسائق فقلت: لم يكن عليك فعل ذلك.
قال مبتسماً: لكني أردت ذلك.
كانت الحافلة مزدحمة جداً، كان هنا كرسين شاغرين على اليمين و لكن لم يكونا في نفس الصف. اشار لي بالجلوس في الأول و جلس هوا في الكرسي خلفي ماشرة. كان جواري رجلٌ في منتصف العمر يرتدي بدلة رسمية، أما بجانب سام كان يجلس رجلٌ لاتيني محلوق الشعر. تحركت الحافلة شعرت فجأة بقبضة تمسك ظهر مقعدي واحسست به يقترب مني كان سام ، سمعته يقول: لدي سؤال لك.
لم التفت له كنت منزعجة من طريقة حديثنا، كان يهمني ان أرى ملامح الشخص و أيضاً لا أحب التحدث بصوت عالٍ يسمعني كل الملأ.
قلت : بخصوص ماذا؟
جائني بشكل مفاجيء لم اتوقعه: تيم!
التفت إليه وأنا غاضبة وقلت: حقاً! الأن؟
كانت نبرتي حادة جداً، لم أكن اقصد ان تكون بهذه الحدة لكنه استفزني جدا. ليس الأمر مناسباً للتحدث عنه في العلن.
قاطع فوج مشاعري صوت أحدهم: يمكنه الجلوس مكاني.
نظرت لمصدر الصوت كان الرجل الجالس بجانبي كان يبتسم ابتسامة خفيفة، حاولت تلطيف تعابير وجهي بابتسامة لم تكن لتظهر في هذا المزاج ثم قلت: شكراً لذلك .. لا داعي لذلك.
كنت أقول هذا متجنبة حديث سام، فلا أريد التحدث عن ذلك الأن ربما أريد لكني لست مستعدة للأحساس بأي شيء سلبي. و لكن ربما اردت ان أتحدث مع الأمر معه لأن الإفصاح عن كل تلك المشاعر أسهل عندما يكون الشخص غريباً عنك.
سمعت سام: شكراً سيدي سنقبل بعرضك.. يالك من رجل جيد.
قام الرجل حالاً بالنهوض فقمت أنا بدوري حتى يستطيع الخروج، و دخلت مجدداً للصف لأجلس قرب النافذة.
جاء سام إلي و كنت أراقب الطريق في صمت.
قال بصوت منخفض: لا تريدين التحدث عن الأمر؟
لا أصدق انه أكمل الحديث عن الأمر ذاته بعد ان تكلمت معه بذلك الأسلوب، لم أجبه فقال مجدداً: هل ضايقتك؟
التفت لأقابل وجهه وقلت: بلى ، لكن لست أنت .. لا أعرف و لكن الأمر كله يعصف بقلبي و عقلي.
ثم قلت: سأخبرك.

تلاشي .. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن