الفصل الرابع والثلاثون

446 71 215
                                    

الفصل الرابع والثلاثون|| خطوة إلى الأمام


ذكرى تلك الليلة الماطرة زارته مجددا، تزينها صاحبتها ذات الناعستين، حين حزنت من سخريته من خطها، بل من إظهار مشاعره، حديثه معها تلك الليلة بأنه لا يجيد التعبير عن مشاعره دفعها للطلب منه بأن يتبادلا الرسائل الورقية، لا زال يذكر ما كتبته جيدا

تلك الذكرى زارته رفقة الكثير والكثير من الذكريات، كعاصفة هوجاء بعثرته، مزقت صموده، وأجادت العبث بمشاعره، مرت ستون يوما منذ عاد إلى عائلته، لكنه كان معلقا بحبل من عذاب، تائها يعيش في سراب

علاقته مع عائلته، علاقته مع ميمونة، علاقته مع خليل، كل شيء غدا من التاريخ بالنسبة له، لم يقلل من علاقاته سابقا لأنه لا يجيد ذلك، بل لأنه يكره ذلك أساسا، لا يريد فتح المجال لشخص ما قد يغدر به مستقبلا، حتى علاقته بجمال ومعاذ سابقا كانت محدودة، ليس سيئا هو في بناء العلاقات؛ لكنه كان يقللها إراحة لرأسه ونفسه، لكن بدا أن فتحه المجال لأمجد كان الغلطة التي هرب منها دائما، والآن فقد غدا وحيدا وهو ليس بوحيد

شعور الوحدة أشد وطأ من أي شعور، شعور يجثم على الصدر، يضيق الخناق، يعمل كثاني أكسيد الكربون في الهواء، يعتصر القلب، ويبهت لوحة الحياة في العينين، يُصيِّر الروح شبحا، والجسد خواء، يقتات على الراحة، ويلتهم الفرحة، ويجعلك فقط (مسجل على قيد الحياة) لا يحتاج غالبا لئلا يكون بجانبك أحد، يستطيع التسلل بهدوء، يفرض السيطرة، يقتل ببطء، وينهي بهدوء

كل تلك المشاعر القاتلة ظلت رفيق يوسف لأكثر من عام، يذوق مرارتها كالحنظل، يتجرعها بكميات ليست قليلة، تبث سمومها في جسده، أو ربما روحه، استنزفت طاقته، أهدرت صبره، أهلكته وهو يسمع ويبصر، ويسير ويتكلم

بقي له من كل شيء جميل ذكرى، ذكريات فقط، والذكريات سلاح ذو حدين، كانت تغوص في داخله كسكين حار يموج في قطعة زبدة، أوقعته بين شطرين، شطر يشعر فيه بذكرى تلك الأشياء، وشطر يشعر فيه بعدمها من حوله، فينصهر بأسى

حملته ذكرى الرسائل الورقية ليتجه صوب منزله قرابة الحادية عشرة، لكنه وجد الباب مغلقا، والمنزل هادئا، بدا كما لو كان خاليا، أخرج هاتفه المحمول ليتصل بشقيقته، لكنها لم تجب أرسل رسالة يقول فيها (يسرى افتحي الباب، لمَ المنزل هادئ هكذا؟)

انتظر حتى يأتيه ردها، لم يكن يعلم أنهم في زيارة إلى منزل عبد العليم، وهاتف شقيقته بيد ذات الناعستين، تقرأ رسائله من شريط الإشعارات، أرسل أخرى يقول وعينيها تطلعان (أريد أن آخذ شيئا مهما من غرفتي، كما أني أريد رؤيتك) تلتها أخرى يقول فيها (لا تخبري أحدا عن قدومي، أريد أن أذهب سريعا)

حملت الهاتف لتعطيها مخبرة إياها بوصول بضع رسائل، لقد حدد لعائلته بالفعل يومي الخميس والجمعة لزيارتهم، فما الذي دعاه ليزورهم ليلة الاثنين؟ وما الشيء المهم الذي بقي له في غرفته؟ ولِمَ يود رؤيتها؟ تلك التساؤلات دفعت ميمونة لإخبار خليل، فأي خطإ لم يعد قابلا للتعديل أو التجاوز؛ بعد أن أصبحت أعين الشرطة عليهم في كل مكان

مهلا يا صاح!حيث تعيش القصص. اكتشف الآن