حفلة نادي الدراما

1.1K 30 1
                                    


قبل العشاء بقليل كان ايين جالساً قرب النافذة يراقب السفن في المرفأ:
- يبدو ان السيد كارينغتون ارسى سفينته في موضوع السيد هاري تورنز.
رفعت جوي نظرها نحو زوجها واجابت:
- اهذا صحيح ؟ ترى كم سيدوم بقاؤه في اواكيبو؟.
- هو نفسه لا يعلم، امر مؤسف انه يعيش حياة كهذه بدون اي هدف، ربما له غاية شخصية تمنعه من الاستقرار.
سمعت جايني نظرية ابيها ، فانه مثلها عاجز عن تفسيركيف ان رجلاً كثير له عزيمة قوية وادراك للمستقبل، يكتفي بالتشرد من بلد الى آخر بدون اي هدف معين.
- دلت احاديثه عن معرفة عميقة لبلدان عديدة ممايوحي ان عمره اكثر من ثلاثين سنة كما يبدو او انه بدأ حياة السفر في سن مبكرة.
- ربما ياعزيزتي، يجدر الذكر انه رجل ذكي ومثير.
واطلق زوجها ضحكة خافتة:
- اعتقد انه رأي توافق عليه معظم النساء
ولشدة دهشتها لاحظت جايني وجه بتحول من لونه الطبيعي الاحمر، ثم ترتب شعرها بطريقة عصبية.
- انه رجل بكل مافي الكلمة من معنى.
واضافت قائلة:
- لاشك ان بول يعتبره مثله الاعلى.
- يسعدني ذلك، فبول يحتاج لتأثير شخص كبير مولع بالطبيعة والرياضة بدل تأثيره المستمر بلويس باستور.
لم يسأل احد جاينى رأيها بثيو كارينغتون مما اسعدها ، لقد قررت ان تبعده عن ذهنها وفى صباح اليوم التالى ورغم اصرار شاي رفضت جايني بعزم الذهاب لصيد سمك الاسبرط
لكن بينما جايني تتبضع من سوق المدينة , كان ثيو اول شخص تلتقي به فور خروجها من السيارة .كان واقفاً امام حانوت للتحف الغريبة يتأملها بنظرة تهكمية والتفت نحوها فور خروجها من السياره وبادرها بالحديث قائلاً:
- بضاعة تافهة تصلح للنفاية.اتعتقدين ان هناك من يشتري مثل هذه البضاعة؟
فألقت جاينى نظرة الى الحانوت راجية الا يكون تعليقه قد وصل الى لاذان السيدتين العجوزتين اللتين تملكان الحانوت.
- نعم .لكنه عدد قليل من الناس. 
اضاف بلؤم: 
-ارتفعت مكانه الشعب النيوزيلاندى فى نظري.
ثم استطردت قائلاً:
- لابأس بهذه المنطقة كمركز للتبضع
ضحكت جاينى وسألته :
- هل اشتريت بعض البطاقات البريدية؟
- لا فما من احد يهمنى لارسالها له.
- حتى امك
- لا تحب هذا النوع من المراسلة.
كانت الشمس تلمع من خلال شعره الذهبي واحست جايني بجاذبية قوية نحوه، وشعرت في اعماقها ان هذا الاحساس بات يتخطى مجرد الجاذبية الخارجية. كانت عاجزة عن الفرار من هذا الوضع، وحمدت القدر ان نظارات الشمس التي كانت ترتديها قد حجبت شعورها الواضح في عينيها
- ولا اية عمة مثلاً؟ ولا اية ارتباطات ودية؟
اطلق ضحكة خفيفة واجاب :
- ليس لدي اية عمة، ورحيلي عادة يسعد اية فتاه ارتبط بها ودياً.معاملتى للفتيات سيئة جداً.
- يبدو انك كبقية البحارة ,يوقعون الفتاة حبهم ثم يتركونها بدون رحمة.
اجاب ثيو وقد تلاشى عن وجهه المرح وبدت عليه القسوه:
- تماماً .معظم النساء يفضلن حياة مستقرة , منزلاً وزوجاً يعود كل مساء. تسعى النساء وراء جذور وانا مجرد من اى جذور.
- ربما كانت مسأله وقت .اعنى الرغبه بالاستقرار .حالياً لا افكر فى اي شيء آخر سوى خوض المجهول واكتشاف العالم
رفع حاجبه الكاحل اللون وقال:
- يالك من رومنطقية ياجاينى .جملتك رائعة.
- تلقيت الكثير من الالقاب سابقاً , من الطفها لقب رومنطقية خاصه انه وصف منك.
ظهرت على وجهه ابتسامه :
- حسنا اذن لن اقول المزيد .الى اين تذهبين؟
- الى حانوت البقالة.اذا شئت الانتظار اوصلك الى المرفأ.
- اشكر لطفك الحقيقة اننى عاجزة عن مل كل هذه البضائع
وبعد ان تم الاتفاق على اللقاء قرب السيارة ذهب كل منهما في سبيله، ثيو الى مركز البريد وجايني الى حانوت البقالة
اختارت الآنسة باودن هذا الحانوت لشراء بضاعتها لأنها تفضله على الآخرين، فهو يضم فعالية المخازن الكبرى والخدمة الشخصية المتوفرة في الحانوت الصغير، ويبدو ان ثيو كارينغتون قد اختار الحانوت نفسه كما اكتشفت جايني من خلال حديثها مع البائعة الشابة
- رجل رائع الذى كنت تتحدثين اليه,هل تعرفينه؟
- بالكاد .
تكره جاينى الثرثرة لكن جانيس ودودة ولا تقصد اي شيء فاستمرت قائلة:
- جاء البارحة صباحاً فى يخت رائع .دعاه ابي الى لتناول طعام الغداء برفقتنا.
قالت جانيس بحسد:
- يالك من فتاه محظوظة.
ثم استمرت تقول:
- عندما دخل الحانوت تضاعفت دقات قلبي، ارجو ان يدوم بقاؤه هنا لمدة طويلة.احب امثاله من العمالقة الشقر.
- انتبهي الا يسمعك تيري
- انتهى كل شيء بيني وبين تيري، لست على استعداد لاستقرار بعد، ثم اني لا ارغب بقضاء بقية حياتي احلب البقر.
ابتسمت جايني ولم ترد ، كانت تعلم ان جانيس ابنة مزراع وتملك الكفاءة الكاملة لتكون زوجة مزراع، رغم مايبدو عليها من فتنة وتكلف.
- ما اسم صديقك؟
- ثيو كاريغتون . 
-هل يسعى وراء عمل ؟يحتاج ابي لرجال يعاونونه فى جمع التبن.
- مازال الوقت باكراً!.
- هذه هي المشكلة، مر علينا فصل ربيع حار مما جعل اثنين جاهزاً الآن، لكن لا يوجد عدد كاف من التلاميذ للعمل في هذا الحين كما هي العادة.
-حسناً، اذن سأسال ثيو ام تريدين طرح السؤال بنفسك؟
- لا، شكراً، ربما ظنني وقحة واعتبر صناعة التبن دون مقامه.
لكن ثيو نيوزيلاندي وهذ يعني انه لا يرفض الاشغال التي تتطلب مجهوداً جسدياً،اقترحت عليه جاينى هذه الفكره فأجاب بعد الدقائق من التفكير:
- فكرة جيدة .ارحب العمل ،من علمك قيادة السيارة؟
- ابى لماذا؟ 
- حسناً فعل.فانت تقودين بدون اى ارتباك وبراحة تامة وسيطرة كاملة.امر نادر لفتاة وخاصة في عمرك
- هل انت متحيز لجنس الرجال؟
- عليك ان تكتشفى ذلك بنفسك. 
قال ذلك وكأنه يلمح عن رغبته فى البقاء لمدة طويلة .ولد فى قلب جاينى شعور مجهول ووجدت نفسها تبتسم لغير سبب.
- هل ستدخل لتناول الشراب ام عليك ان تذهب مباشرة الى حجرتك؟
- الى حجرتى .فلدي اعمال كثيرة.
رمقته جاينى بنظرة تساؤل لكن تبين لها من خلال نظرته الجامدة انه لن يرحب بأي سؤال اضافي.فاكتفت بالصمت والتركيز على قيادة السيارة.
استقر فصل الصيف بحرارته وجفافه.وظمئت الارض تحت اشعة الشمس النحاسية وفي كل انحاء آواكيبو بدأت المضخات بالعمل .ظهر القلق على وجوه المزارعين ودار بينهم حديث عن موسم جفاف لم يتكرر منذ عشرين سنة
كان تدفق السياح يكبر حتى بدا وكأن عددهم يفوق عدد السكان المقيمين ويتمتعون بوقت سعيد حتى ولو أن البعض منهم لم يتوقع ان ترتفع الحرارة الى هذا الحد ، وضعت جايني قبعة على رأسها لتحميه من الشمس وحجبت عينيها تحت نظارات شمسية وراحت تقطف ثمر الفريز واكتسبت بشرتها لوناً اسمر جذاباً.
وقبل العيد بأسبوع نظم رجال الاعمال المحليون استعراضاً حضره الجميع .كانت عائلة باودن من منظمي هذا الاستعراض.وارتدت جاينى فستاناً صيفياً ونزلت تتنزه فى ساحة المدينة
وفى نزهتها مرت فتاة فى السنة الاولى من عمرها تعثرت خطاها وكانت على وشك ان تقع حين اسرعت جاينى والتقطتها .
وسمعت صوتاً قادماً من خلفها:
- حسنا فعلت. 
- ثيو
ابتسمت جاينى لرؤيته .وفجأة لم تعد لزينة الميلاد والغبطة التي تنتشير حولها الهمية نفسها.
قال ثيو ممسكاً بذراعيها:
-بات لونك اسمر.تعالي رافقينى.
- كيف عملك فى جمع التبن؟
- حار .جاف وقاس .لكننى سعيد لتمرين جسدي من جديد .اننا على وشك انهاء العمل ، بقي يومان وينتهي الأمر.
- ترى كم سيدوم هذا الجفاف ؟ربما ستتساقط الامطار من دون توقف خلال شهري كانون الثانى وشباط.
- ارجو الا يحصل ذلك.قررت المكوث حتى آذار. 
- صحيح!.
فوجئت جاينى لشعورها بهذا الفرح العارم عند سماعها هذ الخبر.وعجزت عن ازالة الابتسامة عن وجهها
لننطلق معاً، يتنزهان بين زحمة الناس، يقفان بين الحين والاخر لتبادل التحية مع بعض المعارف ، وقدمت جايني ثيو لأصحابها.. احبه الجميع نساء ورجالاً، كان الاستعراض مليئاً باللهو والتسلية وعندما انتهى سألها ثيو:
- اترغبين فى التبضع الآن؟
- اعرف ان الاستعراض للاطفال لكننى اجده ممتعاً
- لاتعتذرى ياعزيزتى فأنت مازلت طفلة ومن الطبيعي ان تمتعي بهذا النوع من اللهو .فى اي حال استمتعت به انا ايضاً.
- لاتحاول مراعاة شعوري. 
- للطفوله براءة مرغوبة جداً كما تعلمين ومن السهل تقليد الانسان المحنك والمتكلف
لكن يستحيل استرداد براءة الطفولة متى فقدت.كنت اجاملك .
- هل تحب ان يقال عنك انك ولد؟.
اطلق ضحكة رنانة واجاب:
- مضى علي وقت طويل منذ كنت ولداً.ماذا تفعلين الآن؟ 
اجابت هامسة وقد ادهشتها سرعته في تغيير الموضوع:
- لاشيء
- اذا تعالى معي .اتركى رساله لأهلك تعلمينهم بها عن خروجك.وتعالى لارافقك الى شاطىء اكتشفته منذ ايام قليلة.
ترددت قليلا لكنها سرعان ماوافقت وتركت نفسها تستجيب لشخصيته الساحرة التي لا تقاوم . اصبح يملك سيارة الآن، متوسطة الحجم جديدة ومريحة جداً وبعد ان تركت رسالة لأهلها وارتدت سروالاً قصيراً،انطلقا معاً نحو الحوض ، وكانت الطريق هادئةوالصمت سائداً وتحيط الطريق على الجانبين اشجار استوائية ، والشمس مشرقة باشعتها الحادة، جلست جايني تتأمل ماحولها بدهشة عارمة
واتخذ ثيو طريقاً تؤدي الى حافة النهر ثم اوقف السيارة والابتسامة تعلو وجهه ، ولم يقل شيئاً ، ترك جايني في سكرتها.
كانت تجهل وجود عالم في هذه الروعه والجمال .وبعد حين خرجت جاينى من السيارة الى الرمال الذهبية التي تحيط مياه النهر الدافئة ورافقها ثيو ممسكاً بيدها.
قالت بلطف:
- مكان رائع لم آت الى هنا من قبل ،انها مزرعة عائلة ماثيو,اليس كذلك؟
- نعم تعالى لنكتشف المكان معاً. 
كانت الأرض مزروعة بالملفوف والازهار واصناف النباتات ومياه الجدول الصغير باردة ونقية
- خلال تشردى حول العالم كانت نفسي تتوقف دائماً للرجوع الى الوطن.كم انتظرت لاعود الى هذه الارجاء ، رغم كل ماقدمته لي البلاد الاخرى، يبقى الوطن قسماً من كياني لا يتجزأ.
- كم طال غيابك؟ 
- عشر سنوات كنت فى العشرين من عمري حينئذ، صممت على الرحيل اردت ان ابرهن لذاتي اني قادر على شق طريقي بنفسي، عملت ليل نهار ووفرت مايكفي من المال لشراء مركب صغير، انطلقت في نحو الجزر. 
- الجزر!
كانت تعلم ان مايعنيه ثيو هي جزر فيجي، تاهيتي، راروتونفا، وساموا وغيرها وهي جزر استوائية ذات سحر خاص..لاتبعد عن نيوزلاندا ا القليل لكنها عالم مختلف تماماً.
تنهدت جاينى معبرة عن رغبتها الجامحة في خوض البحارفنظر اليها ثيو قائلاً :
- يبدو انك مصابة بشهوة للسفر ايضاً لا تنسي ان للسفر متاعبه ومشقاته. 
واخبرها عن الاخطار التى واجهها في البحر كالقراصنة في اندونسيا .. ثم اخبرها عن حياة الصيادين والفرحة في الاستهداء الى واحة في الصحراء وعن نقاوة النور فوق الجزر اليونانية وجاينى تصغى وتراقب كل تعبير يرتسم على وجهه وكأنها حريصة على الاحتفاظ بكل التفاصيل فى ذاكرتها .ربما احتاجت اليها في ليلة باردة من ليالي الشتاء القاتمة عندما يكون ثيو قد غادر آواكيبو
ولم تدرك الى اي حد تركت نفسها تتأثر بحديث ثيو فالهواء بات اكثر نقاوة والسماء اكثر زرقة والشجيرات الخضراء اكثر انتعاشاً، ربما كان هذا هو الوقت الذي احست فيه بشعور يولد في اعماقها لم تعرفه من قبل ، كانت تلتهم بعينيها كل شيء حولها فسألها ثيو :
- لماذا تحملقين بكل شيء على هذا النحو؟.
- احاول ايجاد المكان المناسب لبناء منزل
- منزل؟ وكيف تصفينه ؟.
- اتخيل منزلاً متواضعاً... تحيطه الاشجار من كل النواحي، نوافذه واسعة وعديدة ، ارضه مفروشة بالبلاط وبعيداً عن الانظار.
كانت رائحة البحر والبستان تمتزجان مما زود الهواء بنشوة مسكرة
قال ثيو :
- رائع.
نظرت اليه جاينى ولمحت تعبيراً جامداً فى عينيه مما جعل قلبها ينكمش فتابعت سيرها بعيداً عنه.
امرت جوى ابنتها جاينى :
- حاولى ان تتذكرى ذلك دائماً فهذا يساعد على تحسين قامتك وثيابك هل انت جاهزة؟
اؤمات جايني برأسها، موعد حفلة نادي الدراما الليلة وجايني قبلت حضورها على مضض... لم تكن تملك الا ثوباً واحداً مناسباً للحفلة، لونه اخضر وطرازه قديم، لا يلائم قامتها ابداً، وحاولت جايني ان تخفي حزنها لكن بدون جدوى فاستلقت على الكرسي حين صاحت امها:
- جايني!
- اماه احتاج لمعجزة لتحسين مظهري لست كبينى املك جمالاً طبيعياً؟
- لماذا تقارنين نفسك ببينى؟لاتدعي نجاحها في الحياة يجردك من ثقتك بنفسك... حتى بينى اضطرت ان تتعلم كيفية التصرف فى المجتمع
قال بول متحدثاً من مقعده قرب النافذة:
- لا تصدقي ذلك، ولدت بيني وهي مزودة بحسن السلوك ، الفرق بين بيني وجايني هو ان بيني واثقة تماماً ، انها هدية الخالق للبشر، بينما جايني تعتبر انه لطف من العالم ان يقبل وجودها.
رمقته السيدة باودن بنظرة ساخطة ثم اجابت:
- كيف اعتقد انك تخطيت سن المراهقة يابول.
ومن مقعده قرب النافذة كان بول يراقب الشارع بواسطة المنظار:
- هاهو ثيو فى صحبة فيل تالبوت الفتاة ذات الشعرالمصبوغ.
فيل تالبوت فتاة من عائلة ثرية ومكانة مرموقة فى المجتمع وتدرس فى جامعة اوكلاند.رائعة الجمال .انيقة وظريفة وقبولها باصطحاب ثيو الى الحفلة يدل على انه من مستوى اجتماعي حسن
كانت الفكرة نفسها تجول فى ذهن جوى وعندما دخل زوجها الغرفة اخبرته بما قاله بول.
- هذا دليل كاف على ان ثيو ليس مجرد بحار متشرد حسناً هل انتم جاهزون؟
وخرجوا معا الى حفلة نادي الدراما.

منتديات ليلاس ريحانه

البحار الساخر (مكتوبة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن