اغرب انواع الصداقة

3.6K 54 3
                                    

لو اتيح لك الصيد فى منطقة اواكيبو لوجدت ان المياه الجارية غالباً ما تملأ زورقك بسمك الاسبرط من دون ان يكلفك ذلك كثيراً من الجهد .كانت الهرة السيامية الانيقة المدعوة شاي تفضل سمك الاسبرط على اي طعام آخر لذلك تجدها برفقة سيدتها جاينى باودن تتبعها عن كثب كلما سارت متنزهة على طريق المرفأ
وذات مرة سمعت جايني بعض السياح يعلقون على رؤيتهما سوياً. كان الوقت باكراً فوصلت اصواتهم الى مسمعها بوضوح، لم تدع جايني ماسمعته من تعليق يؤذي مشاعرها فلم تظهر اي ردة فعل في تصرفاتها تدل على ذلك.
ولم يكن هناك اي سبب يدعوهم الى الاعتقاد بقدرتها سماع مايقولون... ثم ان شاي هرة رشيقة متأنقة بينما كانت جايني طويلة الذراعين، شعرها مهمل بلون بني يميل الى الاحمرار تعوزها اللباقة، وكان اولئك السياح يصفونها بالفزاعة في احاديثهم مما آلمها جداً
اعتادت جاينى بعد الحادث ان تجمع شعرها الى الوراء وبعيداً عن وجهها .اعجب ذلك امها لانه يدل على الترتيب.لكن جاينى كانت تعلم ان تصفيف شعرها على هذ النحو لم يكن ملائماً، ولكن ماالعمل... فوجهها ملىء بالزوايا والعظام ..كانت عيناها اجمل مافى وجهها .من اللون الكهرماني الغريب، ضيقتين بشكل حجب الهداب الكاحلة والمستديرة التي كانت تطوقهما
تخلت جاينى عن الاهتمام بمنظرها كتخليها عن السعى فى ان تكون الفتاة المثالية التى تتمناها امها.ولا تلوم جايني اهلها اذا اعتبروها مايقارب اللغز، اما بيني شقيقتها التى تكبرها بثلاث سنوات,فهي جميلة وظريفة.وقد انجزت سنتين من دراسة الحقوق في جامعة اوكلاند، ومن الأكيد انها ستنال ماتطمح اليه.
كانت بيني تجد مايكفي من الوقت لاتمام دروسها وللتمتع بحياة اجتماعية كاملة.
عندما تكون بيني في البيت فالهاتف يرن باستمرار ، لأنها من النوع المرح الودي المبهج والمليء بالحيوية، اماجايني فأحبت شقيقتها كثيراً، لكنها تفضل نمط عيش مختلفاً تماماً عن نمط عيش مختلفاً تماماً عن نمط عيش اختها.منتديات ليلاس
كان الصمت سائداً خلال نزهة جايني، صوت طير البحر كان وحده مسموعاً، وجايني تحب هذا الوقت من الصباح اذ تشعر ان آواكيبو ملكها، كل شيء نقي وجامد تحت اشعة الشمس المشرقة حديثاً، وهذه الفترة من الصباح قصيرة المدى اذ يستيقظ الناس في آواكيبو باكراً وتملأ السيارات الطريق، وتعلو اصوات التيار المختلفة والمألوفة، لكن في هذه اللحظة .
كانت آواكيبو ملكاً لجايني فقط، خطاها على الاسفلت هادئة، ورصيف الطريق غير مفروش بالاسمنت، مماجعل العشب الأخضر الطريق يغطي قدمي جايني بمادة غروية.
كانت شاي تجري وراءها مرددة مواء مرتعشاً، ثم فجأة طار من وراء الشجيرات غراب، لمعت اشعة الشمس من منقاره الذهبي، الأملس والمحمل بالديدان.
جمدت شاي في مكانها لفترة قصيرة، ثم قررت ان تتجاهل مارأت، لفتت نظر جايني شجرة رائعة ترتفع في زواية على ضفة النهر، ازهارها تتفتح بلونها القرمزي وتحيطها شجرات الأوكالييس.
تنهدت جايني لهذا المنظر الرائع، لقد مضت عليها ست سنوات في نيوزيلاندا لا تتذكر عن وطنها انكلترا الا القليل وتجد انه من الصعب العثور على اي مكان آخر يوازي جمال آواكيبو، بينما كانت امها تتسوق لمكان تكون فيه المناظر الطبيعية اكثر هدوءاً ونعمة.
فكرت جايني ان نورث لاند ابعد ماتكون عن الهدوء .. فمناظرها تتغير كل عدة اميال.. من العشب الأخضر الخصب والشجر الانكليزي، الى المرتفعات الصخرية المكسوة بالغابات المطرية.. ومن القمم البريكانية الملساء الى بقايا المقدوفات البريكانية المعوجة والمتآكلة، وكان البحر في كل مكان .
لا يبعد ابداً عن هذا الساحل الشرقي بمرافئه وجزره وشبه جزره ومائه الازرق المتلأئي وشواطئه البيضاء الذهبية، احبته جيني حباً عميقاً يعجز الكلام عن وصفه. كان حوض الزورق يشبه بركة مستديرة من الماء البني الاخضر، على رأسه يسقط كالشلال نهر صغير من فوق سلسلة من الصخور تشكل حدود التيار المائي. عصف الهواء من الجهة الاخر حيث الاشجار الاستوائية وجلب معه اخيراً النهر ليصب في البحر بعد مسافة خمسة اميال.ريحانة
كان يزور آواكيبو الكثير من السياح لانها منطقة رائعة الجمال وذات منافع تاريخية ومناخ شبه استوائي حيث يتوفر حامض الليمون وفاكهة الكيوي وغيرها من بساتين الفاكهة واسواق الزهور، فاذا كنت في رحلة في يخت متجهاً نحو الشمال تجد البنزين والماء متوفرين على رصيف المرفأ بكثرة ويقع مخزن الناقلة على حافة الماء تماماً.
المخزن مازال مغلقاً في هذه الساعة وكان يسمع ترنيم رجالي قادم من بيت الناطور وراء دار وورن مما يدل على ان عائلة فيليس قد استيقظت من النوم، لقد اصبحت دار ووزن متحفاً الآن وباتت الحدائق التي تحيطها مكاناً يتنزه فيه السياح ليتمتعوا بمنظر الازهار والنباتات التي يرجع اصلها الى العهد الفيكتوري
كان المكان جميلاً لكن تمدنه لم يرق لذوق جايني فأخذت تتأمل طيور الطاؤوس التي تندفع بخفة ورقة فوق العشب الاخضر لكنها كانت تفضل طيور البط التي تسبح في الجدول وتغوص باحثة عن فتات الخبز. صحيح ان البط طير عادي وشائع لكنه نشيط وحيوي الى درجة.
يبدو ان هناك يختاً جديد اتي المرفأ خلال الليل.. كان موصولاً بالرصيف مما يدل على انه من عمل بحار ماهر، ربما كان رد تومسون اذ غالباً ماكان يتباهى بقدرته على ارساء مركبه حتى ولوكان ...شبه نائم ، لقد ابحر في مركبه القديم ليعود آخر النهار بكمية من السمك للبيع فهكذا يكسب عيشه.
تأملت الهرة شاي طيور البحر باهتمام هادئ وهي جائعة فوق ركام..ابتسمت جايني ثم زودت صنارتها بطعم ورمتها بعيداً عن طرف الرصيف وتفقد شاي تحفظها لرؤية اول سمكة تظهر على سطح الماء.. وبما ان سمك الاسبرط طعامها المفضل فرؤيته تحولها الى هرة عادية وتفقد غطرستها كأرستقراطية صعبة الارضاء، لكن الحظ ام يحالفها اليوم، لم تظهر اي سمكة بعد وجلست جايني بارتياح مدلية ساقيها الطويلتين على الحافة
كانت عيناها تبرقان تحت حاجبين اسودين وتتأمل المرتفع المواجه لحوض الماء بامعان يغمرها شعور بالراحة والطمأنينة ، اغلقت عينيها ورفعت وجهها الى الشمس وعندما فتحت عينيها من جديد كانت شاى قد اختفت فوقفت جاينى وراحت تنظر حولها بقلق, ان شاي هرة شديدة الفضول ولمحت جاينى اثار براثنها على الندى
فوق غرفة القيادة فى المركب الكبير الذى اتى الى المرفأ منذ فترة .سارت جاينى بخفة شديدة فوق الرصيف.ركعت حتى باتت بمستوى المركب ونادت بصوت منخفض لكنها لم تتلق اى جواب.
قالت متذمرة:
- اللعنة عليك ايتها الهرة؟
ثم نادت من جديد لكن دون جدوى .درست جايني الوضع وهي جالسة على كاحلها ..لم يكن مرادها ايقاظ البحارة فى المركب وذلك بالصياح على شاى ولكن من الممكن ان شاى دخلت غرفتهم وايقظتهم بالسير فوق وجههم ،فهذه واحدة من عاداتها السيئة...لقد دخلت المركب بدون شك فخطواتها تركت آثاراً واضحة على الارض ، غمرت الحيرة جايني وهي تحدق بالمركب . هاهي هرتها شاي قد وضعتها في مأزق قد يكون محرجاً ،ثم سمعت جاينى صوتاً رجالياً انهى ورطتها وانفتح باب الحجرة على مصراعيه وخرج منه شاب اشقر طويل القامة ووسيم,حاملاً شاي في ذراعيه وبينما كانت جاينى تنظر بتعجب راحت شاي تربت بخفة ذقن الشاب ثم قفزت من بين ذراعيه على الرصيف مطلقة مواء يدل على الابتهاج .اغتاظت جايني بينما اطلق الشاب ضحكه شبه هازئة ثم قال:
- الهر حيوان لايعرف الاخلاق ولا مسؤولية هل من عادتها ايقاظك بالمشى على وجهك؟
- انى آسفة....
قالت جايني وهي تحدق بغضب في هرتها شاي التي كانت تغسل وجهها غير مبالية بمايجري واضافت:
- اني آسفة .. شاى هرة شديدة الفضول.
فقال بوقار :
- انها ميزة خطرة لكنها انثوية.
كانت عيناه خضراوين تعلوها اهداب طويلة . بدت عيناه تضحكان لها وكأنهما تشاركانها المزاح .
شعرت جاينى باحساس غريب كان مزيجاً من الانزعاج والسرور لقد اعتادت رؤية رجال عراة الصدر من قبل لكن مشاعرها كأمرأه تتأثر لاول مرة كان من الصعب عليها ان تكف عن التحديق في هاتين الكتفين العريضين السمراوين وهذا الشعر الذي يغطي صدره ، وهو واقف يبتسم لها .شعرت جاينى بالقلق والخجل وكأنه اصبح يشكل خطراً عليها.ولم يعد ذلك الرجل الطريف الذي اظهر لطفاً ودماثة رغم الطريقة التي استيقظ بها.
قالت جايني متصنعة الهدوء قدر الامكان:
- كل هذا لايهم شاي .. فلا احد يستطيع ان يجردها من رزانتها.
- بينما يبدو انه من السهل احراجك فمن تكون الآنسة...؟
- جايني بودن
ابتسم ثم مد يده للتحيه حين انحنت جاينى لترد التحيه امسك بيدها وجذبها الى ركن المركب
تلهفت جاينى لكنه احبط دهشتها:
- انا ثيو كارينغتون وبما ان هرتك ايقظتنى من النوم فانك مدينة لي ببعض من وقتك.
اعترضت جاينى على مضض:
- من المفروض ان اتابع صيد السمك.
لم يكن مرادها البقاء معه فى ركن المركب ولم ترغب فى الرحيل ايضاً.
بات الوضع غريباً بالنسبة الى جاينى التى لم تكن ترحب برفقه الجنس الآخر.
ادار رأسه تجاه شاى وعندما اومأت جاينى برأسها موافقة قال بهدوء:
- هذا ما تستحقه .انتظرى لحظة....
دامت اللحظة اكثر من دقيقة , كانت جاينى تتأمل مقود المركب وفى عينيها علامة ذهول واحساس غريب يلفها.لقد تملكتها اراده اقوى منها لم يرق لها هذ الاحساس,خاصة انه كان واضحاً من خلال ردة فعلها
كان ثيو كاريغتون رائعاً ومدركاً لقوته ،هذا ماينتج عن كون الشخص وسيماً..فكرت جايني رغم ادراكها بأنها على خطأ، فلو لم يكن ثيو كاريغنتون وسيماً فثقته في نفسه تبقى ذاتها. ان ذلك يرجع لشخصية الانسان. يبدو ان جايني تفتقد في الشخصية والجمال معاً. وبينما كانت تفكر حسرتها شردت فى التفكير فى اختها بينى .ان بينى تماثل السيد ثيو فى حسن المظهر وقوة الشخصية.غير ان جايني تحمل لبيني الكثير من المودة ويبدو ان شعورها يختلف تماماً تجاه ثيو...عندما ظهر ثيو من جديد كان حاملاً فنجانين من القهوه وقد ارتدى قميصاً اخضر شربت جايني قهوتها وهي ترمقه بنظراتها بين حين وآخر
مازال كل شيء هادئاً . اشعة الشمس تلمع فوق مياه البحر الخضراء فشعرت جايني بالدفء.كان هناك تغريد طير قادم من شجرة الدراق في حديقة وورن.
تساءلت جاينى ان كان عليها ان تبدأ الحديث بشكل او بآخر.فألقت نظرة سريعة على ثيو .
كان يبتسم ولكن فى شيء من السخرية وكأنه يعلم بمايجول في خاطرها.ابتسامة قاسية نوعاً ما. رغم معرفة جايني الضعيفة عن طبع الرجال، كانت ترى بوضوح من خلال عينيها البرئيتين ان ثيو يعتبرها مجرد تسلية. ساد صمت محرج بينهما خاصة ان جاينى تشعر بوجود ثيو بقوة وكان هذا الشعور غريباً لا تفسير له،وعجزت جاينى عن مقاومته ثم لتضع حداً لهذا الصمت سألت جاينى اول سؤال طرأ على بالها:
- من اين اتيت؟
- من اوكلاند.
- هل كانت الرحله مريحة؟
- لابأس لا اعلم بعد، كم سيطول بقائى هنا.
وافتر ثغره عن اسنان بيضاء تلمع وسط وجهه البرونزى.احمر وجه جاينى خجلاً، فرفع رأسها بيده قائلاً:
- انك خجولة وحساسة جداً ياجاينى باودن، كم لك من العمر؟
زاد هذا السؤال من شعورها بالنقص اكثر من قبل وقالت بغضب :
- ثمانية عشر عاماً.
ثم اضافت:
- ثمانية عشر فقط.
ابتسم بلؤم وقال:
- احمد الله انى لم اعد فى سن المراهقة .وماذا تفعلين,هل تشتغلين ام مازلت فى عطلة الصيف؟
- انهيت دروسى منذ يومين
- والآن؟
- لا اعلم.
- اية مهنة......؟
- لا,اننى لااتقن اية مهنة .فأنا الغبية فى عائلتنا.
رفع حاجبيه واستطرد قائلاً:
- اخبرينى عن هذه العائلة، هل انت انكليزية؟.
اجابت مترددة وهي تنظر اليه نظرة حائرة:
- اعتقد ذلك، يمكنك القول انني من اصل انكليزي.
لم يكن ذلك الرجل الذي يرغب في التحدث الى فتاة في سن الدراسة ، كم له من العمر ؟ 29؟ ربما 30، تبدو عليه الخبرة الواسعة وكأنه عاش حياة مكثفة بالحوداث. كان ينظر اليها بحذر منتظراً منها ان تقول شيئاً.
كان التحدث اليه سهلاً بنظر جايني ، فهي عادة متحفظة جداً الى درجة الخجل لكن الحديث عن اهلها ازال توترها نوعاً وبات صوتها دافئاً ونقياً.
ورشفت آخر نقطة من قهوتها وهي تقول:
- اتينا الى هنا منذ ست سنوات، بعدما تقاعد ابي من الجيش كانت صحته سيئة فاقترح عليه الطبيب تغيير المناخ وبما ان عمتي كانت تعيش في نيوزيلاندا شجعتنا على الهجرة ، لا اعتقد ان احداً منا آسف على المجيء الى هنا.
سألها ثيو:
- من تعنين بقولك.. احد منا؟.
- اهلي اختى بينى تكبرنى بثلاث سنوات واخى بول. بول فى الثالثة عشرة من عمره، لا اعلم بالضبط ماهو شعوره ففي الاشهر الثلاثة الماضية تضاعف نموه وخشن صوته وظهرت على وجهه اوائل لحية.
ابتسم ثيو وقال:
- سوف يأسف بول عل ذلك، وماهى مهنة بينى ؟
- مازالت تكمل دراسة الحقوق فى جامعة اوكلاند.
ظهرت على وجهه علامة التعجب ثم قال:
- يبدو انها آنسة ذكية حقاً.
- وجميلة ايضاً.
واضافت جاينى وقد اغضبتها سخرية صوته:
- بينى تمارس عرض الازياء ايضاً فى وقت الفراغ
نظر اليها ثيو بدقة قائلاً:
- يبدو لى من صوتك انك تشعرين بشىء من الحسد الا تنظرين الى نفسك فى المرآة ياجاين؟
بدأ اسمها جاين غريباً على شفتيه فلقد اعتادت سماع امها جاينى .كانت المجاملة خالية من الصدق ومخيبة الامل .
من المؤكد ان ثيو يعتبرها غبية، وضعت فنجان القهوة من يدها ثم همت بالوقوف قائلة :
- لدي ماهو اهم من التأمل فى المرآة ثم علي ان ارحل فأهلي يتساءلون عن سبب غيابى .شكراً على القهوة.
ابتسم ثيو باستهزاء ورد تحية الوداع لا مبالياً .اغتاظت جاينى من طريقة توديعه لانها عاجزة عن تقليدها.
- الم تحصلي على اي سمك ياعزيزتي؟.
- كلا.
نظرت اليها جوي باودن لكنها لم تعلق على الموضوع.
شعرت جايني بارتباك امها، كيف لها ان تتصرف مثل اختها بيني وهما تختلفان تماماً، ان ماتتوقعه منها امها تعتبره جايني بعيداً عن العدالة وتعتقد بجوي باودن ان جايني يمكنها ان تكون تلك الفتاة المرحة ذات الشخصية المنطلقة تماماً مثل اختها...اذا حاولت مع قليل من الجهد، رغم اختلاف منظرها الخارجي عن بيني.
ان جايني طويلة القامة بينما بيني صغيرة وذات قامة متناسقة. تعلم جايني انها تفقد الطبع والشخصية كأختها.
وبينما جايني تغسل يديها اخذت تتساءل عن مستقبلها . كانت قد غيرت ثيابها وارتدت فستاناً اصر اهلها على ان ترتديه داخل البيت، وقالت جايني لنفسها: المشكلة انني لا ارغب في العمل ، اود لو استطيع التنزه والصيد طيلة النهار فلو كنت رجلاً مثلاً لاخترت العمل في احد المراكب الضخمة التي ترسو في المرفأ باستمرار، لكنه امر مستحيل ان يقبل به اهلي، انهم تقليديون، لقد اذهلهم قرار بيني بأن تصبح محامية لكنهم سرعان ماقبلوا بالواقع بعد ايام من المناقشات ، فمن الصعب الوقوف في طريق بيني متى قررت مشيتها.
اما بول فقرر منذ كان عمره ثلاث سنوات ان يصبح طبيباً ومازال قراره جارياً، واضح ان لديه الموهبة الطبية والدليل على ذلك كان اعتناؤه بالحيوانات ومداواتها في حالة المرض. اما جايني فليس لديها اي موهبة، ان فكرة بقاء جايني في البيت تعجب امها وحدها بينما تعتبرها جايني فكرة بلا اي معنى او هدف، ربما اذا اشتغلت ستكره العمل لكنها تكون على الاقل معتمدة على نفسها. والاعتماد على النفس ارادة كل فتاة في نيوزيلاندا ، اذا اشتغلت سيكون العمل في متجر لكنها فكرة البقاء في الداخل طيلة النهار، لكن ذلك افضل من كونها معلمة في مدرسة او ممرضة في مستشفى كما اقترح والدها، التمريض والتعليم مهنتان لم تكن تملك جايني القوة الكافية لممارستهما.
خلال تناول القهوه قال والد جاينى:
- ارى ان يختاً جديداً رسى فى المرفأ.
كان يتابع مايحصل فى ركن المركب بواسطة منظاروهذه عادة يمارسها فى الصباح والمساء وقد ادت الى مساعدة السكان احياناً وذلك بسبب تفقده لبعض المراكب التي كان من المتوقع ان تكون قد رجعت ، ادى ذلك الى تبليغ فرقة النجاة وبدء البحث عن المراكب المفقودة.
واعتبر الكولونيل والد جاينى رئيس المرفأ مما اسعده .ومنحه مكافأة في المنطقة .
وتابع قوله وهو ينظر الى ابنته:
- انها سفينة سياحية
ابتسمت جاينى وقالت:
- اسمه ثيو كارينغتون .انه من اوكلاند، لم يمانع فى الطريقة التى ايقظته بها شاى عندما مشت على وجهه.
سألت امها:
- هل هو لطيف؟ .
وبذلك تعني هل هو فى مستوى يؤهله لزيارتهم.تكره جايني هذا السؤال الذي تطرحه امها كلما ارادت ان تصنف شخصاً لكنها تعلمت مع الزمن ان تخفي غضبها. ليس والداها من النوع المتكبر لكنهما متمسكان ببعض المبادئ غير مباليين بشعور اولادهما.
رداً على سؤال امها هزت جاينى كتفيها وقالت:
- لااعتقد ان وصفه باللطافة يعتبر مناسباً. لكن اذا كنت تعنين هل هو ملائم لزيارتنا فالجواب نعم يبدو من كلامه انه متعلم. لكن مركبه لم يكلف قرشاً.
اجابت جوي بهدوء:
-جايني ، ليس للمال اية اهمية.
عادت جايني الى طاولة الطعام لتكمل عشاءها وهي تفكر بما قالته امها
قال ابوها متفحصاً ركن المركب :
- يبدو انه من تصميم حداد .
يمكن معرفة هذا الامر بسهولة فالسفينة المصممة على يد حداد تعوم على الماء بطريقة رائعة ، وهذا القوس......
وراح يتحدث عن امور تقنية يشاركه بفهمها بول فقط.كانت جايني تأكل قطعة من الخبز المحمص ، كانت السفينة بالنسبة اليها جزءاً من لوحة رائعة الجمال، مماترك في قلبها الماً مجهولاً، انه الشعور نفسه الذي حاول ابوها ان يعبر عنه بدون شك لكنه وبول منسجمان كلياً في عالم يعرفان وحدهما لغته، اما هي ففضلت ان تشرد بالتفكير بتورووا وهي كلمة بالغة الماوري، سكان نيوزيلاندا الاصليين ، تعنى الفطرس المتجول وهذا اسم السفينة ،لكن وجه ثيو بجماله ومكره كان لايفارق مخيلتها .لقد منعها حتى من التفكير ، وبدلاً من ذلك وجدت نفسها تتخيل انها تملك سفينة مثل تورووا تعبر فيها البحر الى اي مكان تشاء غير مبالية بكسب عيشها،من المؤكد ان ثيو يتقاضى مدخولاً لكنه يملك الحرية ايضاً
هذا ما تحسده عليه جاينى.اماهي فعليها ان ترتب غرفة النوم وتنفض الغبار وتنشر الغسيل، ارتفعت حرارة الطقس حتى وصلت تقريباً الى الدرجة نفسها التي تصل اليها في شهر شباط في منتصف فصل الصيف تفحصت زحمة السير حيث وصل السياح بواسطة الباص او السيارات لزيارة دان ووران وللتجول في حدائقها وتزاحمت السفن على شاطئ النهر قرب المرفأ للتموين بالوقود والمؤن الاخرى، وتوقفت جايني من تقليم الورود الجافة لتلقي نظرة على النساء السمراوات اللواتي داخلن مخزن البضائع لشراء حاجاتهن اما الأولاد فخلقوا جواً من الضوضاء وكانوا يرمون بعضاً من كوز البوظة لطير البط الذي تقبلها بشكر بينما رفضها الطاؤوس بازدراء، واتى لجايني جو العطلة هذا بضوضائه وغبطته وهي التي كانت تتلهف ايضاً لصمت الصباح وهدوءه.
- جايني!
جعلها نداء امها تتابع تقليم الورود الجافة.
- جايني أين بول؟.
- انه في البركة مع ابي.
- آه...
ساد الصمت بضع لحظات ثم ظهرت امها على الشرفة وهي ترفع شعرها عن وجهها:
- كنت اريد منه جز العشب في الحديقة خلف البيت.
قالت باضطراب:
- ربما من الافضل تأجيل هذا العمل لوقت تكون فيه الحرارة الطف.
اومأت جايني برأسها، مازالت امها تجد الصيف في آواكيبو غير محتمل خاصة في وقت كهذا اذا تريد توضيب كل شيء قبل رجوع بيني في اليوم الذي يسبق عيد الميلاد وذلك بعد اسبوعين من التاريخ الحالى لكن جوى والدتها تحتاج الوقت كله لاعداد الترتيبات اللازمة.وفي المستوى الذي تريده غمر جايني شعور بالمودة تجاه امها فاتجهت نحوها ووضعت جاينى ذراعيها حول كتفيها وقالت:
- اجلسى انت وسأحضر لك شراباً من عصير الليمون الحامض ،يبدو عليك قلة النوم مابك؟
ابتسمت جوى واجابت:
- هل يبدو على التعب؟لقد مرت علي عدة ليال بيضاء ، اريد اعداد كل الترتيبات اللازمة قبل عيد الميلاد ..جايني! استحضرين حفلة نادى الدرما بمناسبة عيد الميلاد؟
اجابت جاينى محاولة تجنب اقلاق امها:
- امى تعرفين جيداً ان الحفلات لا تروق لي
- عزيزتي ، كيف لك ان تعرفي ذلك وانت ترفضين حضور تلك حفلة؟ كيف لك ان تعلمي الامتيازات الاجتماعية وانت لا تمارسيانها؟ كيف تعتقدين ان بيني اكتسبت اتزانها؟ لم يكن ذلك من المكوث في البيت والمطالعة او من صيد السمك.
ابتسمت جايني وقالت:
- ولدت بيني ومعها كل الامتيازات الاجتماعية، فنحن نختلف تماماً كاختلاف الوردة عن زهرة اذن الفأو.
قالت جوي:
- لزهرة اذن الفأو حرها الخاص.
اجايت جايني:
- ربما اخطأت في التشبيه اذن
ثم قالت قائلة:
- انني كعشبة على حافة الطريق، طويلة، هزيلة ومنكمشة على نفسها، لاتحسن الزينة وليست لها اية فائدة، احتاج لكسب المال، لقد طلب منى السيد هارفى قطف الفراولة فهل تسمحين لى ؟
- اعتقد ذلك ....
تنهدت امها بصوت منخفض ورفعت عينيها لتنظر الى ابنتها ثم قالت :
- اذا قبلت بحضور حفلة النادى معنا.
ضحكت جاينى مقدرة قبول امها وقالت:
- حسنا فانت الرابحة ,سأحضر لك الشراب الآن.
وعندما اتت جاينى بالشراب .دخل ابوها الغرفة واخوها وفى صحبتهما ثيو كارينغتون مرتدياً سروالاً قصيراً و قميصاً عادياً.توقعت جايني ان ردة فعل امها لرؤية ثيو على هذا النحو ستكون سلبية لكن لشدت دهشتها فإن امها وقعت تحت سحر ثيو تماماً كما حصل لها هي عندما تقابلا لأول مرة.كان ثيو مسيطراً على الوضع كلياً .كان يلقى بنظراته الساخرة على جاينى ما اثار غضبها. اما امها فكانت سعيدة
بوجوده فرحبت به كل الترحيب
سألت امها:
- ...وهذه جاينى ,هل تعرفان بعضكما؟
اجاب ثيو مداعباً الهرة التى كانت تدور حوله:
- اجل وقد تعرفت على شاي ايضاً.
قالت جوي:
- شاي لا تعرف الخجل، انها هرة ابنتي الاخرى بيني.
- آه... محامية المستقبل.
كان صوته يدل على الاعجاب بينما كانت نظرته هازئة. شعرت جايني في نفسها انه لا يعجبها ابداً. فهو متكبر شديد الثقة بنفسه بتصرف وكأنه في بيته، احست ان عليها حماية اهلها منه، فنظرت اليه بغضب متحدية اي تعليق يجرؤ على القائه فيما يتعلق بمستقبل بيني او اي موضوع آخر.
قالت جوي مظهرة فخرهابابنتها:
- اجل فان بيني مجتهداً جداً.
واضافت:
-من المؤكد ان امامها مستقبلاً زاهراً
اجاب ايين ياودن باستهزاء :
- اتؤمنين بالنساء البارعات؟.
- لكن بيني قررت مستقبلها منذ زمن ولم تدع احداً يقف في طريقها ، بالإضافة الى ذلك فأنها جميلة ايضاً.
اجاب ثيو بادب:
-يبدو انها فتاة مثالية.
كانت جايني تراقب اباها يقدم الشراب وجلس الجميع يتبادلون الاحاديث المتنوعة حيث كان على جوي ان تقرر ما اذا كان ثيو كارينغتون شخصاً محترماً.
كان من السهل ملاحظة الاعجاب الذى شعر به بول تجد ثيو، ذلك الرجل الاشقر الطويل القامة المطلع على احدث الاراء، فجلس الى جانبه محدقاً به طوال الوقت. كان الحديث بينهم مملاً. قررت جايني مغادرة الغرفة وبينما كانت تحاول الرحيل اوقفتها امها قائلة:
- لا تذهبي ياعزيزتي . السيد كارينغتون ارتداءك ثياب العمل.
كانت جايني ترتدي سروالاً قصيراً جداً، وكانت تأمل ان يكون واضحاً ان قصر السروال الذي ترتديه يعود الى كونه قديماً وليس الملفت النظر، القى ثيو نظرة سريعة على ساقي جايني السمراوين ورفع حاجبيه مجيباً:
- طبعاً لا امانع على الاطلاق
كانت السخرية في صوته واضحة الى درجة جعلت جايني تتساءل كيف ان والديها يجهلان الأمر. كان ثيو مستلقياً على كرسي، يتنعم بضيافة اهلها والصداقة التي منحوه اياها بينما كان هو يسخر منهم طوال الوقت
قالت جايني بصوت خافت:
- كنت اود الاستعلام عن طعام الغداء.
ولم تبال جايني اذا كان ماقالته يدل على قلة ادب ولباقة.
استطردت امها قائلة:
- الغداء جاهز ياعزيزتي، هل تتفضل بمشاركتنا الطعام ياسيد كارينغتون؟.
وبهذه الدعوة خبرت جوي عن قبولها لثيو.
وافق ثيو على الدعوة بلطف ودون اي تردد.
سألت جوي:
- وكم سيدوم بقاؤك هنا؟.
اجاب بلطف وكانت عيناه تحدقان بجايني:
- لم اقرر بعد، ربما اذا اعجبني المكان هنا سأمكث الصيف كله، والا سأرحل قريباً.
ضغطت جايني على شفتها ، ربما كان ثيو كارينغتون بحاراً متشرداً لكنه بدون شك ذو شخصية متصلبة تعجب كل من يصادفه
كان سحره في ملامح وجهه القاسية، في نظرته الباردة المتكبرة في قمة الخادع المدمن على النكتة والقسوة التي لا ترحم. لاشك ان له نفوذاً على الآخرين.
القت جوي نظرة نحو زوجها وفي ذهنها سؤال تمنعت عن طرحه، قال ايين محاولاً استجابة نداء زوجته:
- هنالك الكثير من الأماكن للاستطلاع ، فإذا كنت تحب الأماكن التاريخية لديك دار وورن تجد خلفها نموذجاً لقرية وسكة القطار البخاري التي تمر وسط اشجار البستان ومجموعة من الآلات القديمة الموجودة هناك.
اضاف بول بخجل:
- هناك الصيد كذلك، نذهب انا وجايني لنصطاد سمك المرلين على بعد قصير من المرفأ حتى لو ان الوقت لم يحن بعد لصيد السمك الكبير.
قال ثيو كارينغتون:
- صيد السمك هنا سهل جداً، فللصياد كل الافضلية وهذا يختلف في بلاد اخرى.
وبعد الحاح واصرار من قبل بول اخبرهم ثيو قصة صيد التمساح في تايمور وهي جزيرة تابعة لاندونسيا ، وروى ثيو القصة هذه ببراعة مستعملاً عبارات قصيرة لكنها اغنى في التعبير من الصفات العديدة، استمعت جايني لهذه القصة باعجاب شديد، لم يظهر ثيو اي تواضع متصنع حيال الدور الذي لعبه في القضاء على الحيوان، كما انه لم يتباه ايضاً حتى ان وصفه للرجلين الآخرين كان حياً، وعندما انهى ثيو حديثه اومأ بول برأسه موافقاً، لاشك ان هذه القصة حقيقية ، تبعد عن الخرافة بعداً شاسعاً.
اثرت القصة على والدي جايني وقبولهما لثيو بات واضحاً برغم قلة ثقتهما بأي شخص مثله يطوف البحار بدون تأمين دخل ثابت ،قليلون هم الذين لايقدرون قيمة ثيو. قيمته الموجودة في ثقته بنفسه، يمكن ان يشتبه الناس به لكونه خطراً او ان يشك البعض في صحة سحره الهادئ لكنه بدون شك يلفت النظر باستمرار ، فاضافة الى صفاته الطبيعية العديدة كحسن منظره مثلاً يملك كفاءة يرتاح اليها الآخرون
انه من النوع الذي يحتاج اليه الآخرون، والقت جايني نظرة نحوه فالتقت نظراتهما، احمر وجه جايني خجلاً مما اثار غضبها. وفكرت ان ثيو كارينغتون من نوع الرجال الذين لا يبالون بترك كل من يرتبط بهم بدون اي شفقة، عليها ان تتذكر ذلك اذا لزم الامر يوماً...

منديات ليلاس ريحانه

البحار الساخر (مكتوبة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن