الأول.

16.5K 260 243
                                    

"إنني أشعر كما لو كنت خارج العالم، في مكانٍ الصراخ فيه لا يُسمع، والدموع فيه لا تُليّن أي شيء."

— خوان مياس






عبدالعزيز


ترك أبوي الشنطة السوداء بالصالة جنب أقدامه المتوترة، حركة إهتزاز رجلينه وإحمرار وجهه الطفيف ما كان جديد عليّ. أبوي طول الوقت متوتر، يخليني دايمًا أحس كما لو أنه على الحافة. ولكن هالمرة كان الوضع مختلف، هالمرة صدق أعتقد بأن أبوي طاح من على الحافة.

همست بقلق، توتره ينعكس عليّ، "يبه؟"

ألتفت لي بملامح معقودة، "مو الحين يا عبدالعزيز، اسكت." قال وناظرته بكل صمت وطاعة. بلعت ريقي الجاف، أحاول أفهم حالة أبوي وشنطة السفر السوداء اللي تستقر جنب أقدامه.

طاحت عيني على جواله، الشاشة تضيء بشكل متكرر بسبب الإتصالات الكثيرة اللي تنهار عليه، لكنه مافكر يرد على اتصال واحد منهم.

عقدت حواجبي بريبة. ما أكذب... حسيت بخوف وهلع من اللي جاي. كنت كبير كفاية اني أعرف إن أبوي مو بخير الآن، ولا أنا بخير نظرًا لتصرفاته اللي ترمي فيني الهاوية بلا أسباب واضحة.

قام أبوي بشكل مفاجئ ومسك جواله، ياخذ خطواته للسلالم الطويلة اللي ماتشوف بدايتها من إمتدادها. ناظرت هيئته وهي تختفي بصمت مُناقض للضجة اللي تصير في عقلي—كنت مشوش، بمعنى أصح كان عقلي مليء بالضباب. لكن الشيء الوحيد اللي كنت متأكد منه أن هذي الليلة مارح تعدي على خير.

بتكون ليلة مختلفة، إحتمالية بشاعتها تتضاعف مع كل دقيقة أقضيها لحالي أنتظر فيها أبوي، يعطيني تفسير أو لمحة من اللي قاعد يصير معاه.

أصوات خطوات أبوي السريعة وصلت لأذني، ألتفت براسي له وتفاجأت أنه غيّر ملابسه ولبس جزمته، من بين اصابعه شنطة يد جلدية وجوازه الأخضر. حسيت بعيوني ترتجف، أجمع قطع الأحجية في عقلي.

شنطة سفر، جواز...

لحظة عدم الفهم اللي عشتها توقعتها بتكون لحظة وتنتهي، لكنها في الواقع أستمرت معي عمر كامل. هالموقف مستحيل أفهمه أو أشرحه ولا أنساه حتى. يطلع لي في كل زاوية في هذا القصر اللي عشت فيه بدونه. القصر اللي شَهد على أول لحظة مأسآة في حياتي—لما تخلى عني أبوي في رمشة عين.

صوته الحاد خدش قلبي الصبيّ، "عبدالعزيز!"

أكتفيت أني أجاوبه بنظراتي بدون ما أنطق... خفت تفزعه كلماتي المكسورة اللي ما أعتاد أنه يسمعها تطلع مني.

غريبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن