تأخّر والدي عن موعد عودته إلى المنزل. كانت السّاعة قد قاربت الثّامنة مساءً عندما كنت أدرس لامتحان الغدّ. بعد مدّة وجيزة، سمعت صوت فتح باب المدخل، وصوت المفاتيح الّتي اعتاد والدي أنّ يرميها على الطّاولة الموجودة بقرب الباب، ولكن ما اختلف عن العادة هو صوت اغلاق الباب، فلقد أغلقه بقوّةٍ جعلت صوته كصوت الغارات الّتي اعتدنا على سماعها. هرعت إلى المدخل لأرى والدي بثيابه المحترقة ووجهه المسودّ، نظر إليّ بطرفٍ خفيٍّ ثمّ دخل غرفته. لحقت به فرأيته ممدّداً على السّرير. قلت له بتردّد:
- ما الّذي حصل؟!
فردّ بعد صمتٍ طويل:
- المنجر.
- ماذا حدث له؟
- احترق.
فقلت بعد ما اتّسعت حدقتا عينيّ:
- ماذا؟! كيف حصل ذلك؟ من فعلها؟
انتظرت جواباً، ولكنّي لم أحصل عليه.
ذهبت متوجّهاً إلى غرفتي فرأيت أمّي تدخل المنزل، إذ كانت في زيارة لجارتنا الّتي أصيبت بشظيّة في ظهرها. دخلت إلى غرفتها لتتفاجأ بوالدي كما تفاجأت حين رأيته، وقالت صارخة:
- قاسم! ما الّذي حصل لك؟
- احترق المنجر يا منى، ضاع تعب السّنين.
أعيش في بيتٍ متواضعٍ في غزّة مع والدي ووالدتي، فأنا وحيدهم. ولدت في العام 1977 وتخرّجت من الثّانويّة العامّة في العام 1995. التحقت بكليّة الهندسة في جامعة الأقصى في نفس العام حيث بدأت دراسة هندسة الاتّصالات هناك. أمّا والدي فكان يعمل في منجرٍ ضخمّ، ووُفِّقَ لفتح منجره الخاص منذ عامين.
ذهبت وأكملت درسي للامتحان، لعلّ أمّي تهدّئ قليلاً من روع أبي. بعد حوالي السّاعتين، قمت إلى غرفة الجلوس وجلست قرب والدتي، الّتي كانت جالسة مواجهة لوالدي، وكان الصّمت سيّد الموقف. بعد صمتٍ طويلٍ ونظرات تردّد متبادلة بيني وبين والدتي، قالت بعد تنهّد:
- قاسم، هل يمكنك الآن أن تخبرنا كيف حصل ذلك؟
فردّ والدي بعد أن أزاح يده عن جبينه بحركةٍ بطيئةٍ:
- كان كلّ شيء طبيعيّ. كنت أقف على مدخل المنجر أستلم المال من أحدهم، وإذ بي أرى دخان أسود يتصاعد من الدّاخل، دخلت ورأيت كلّ من كان في الدّاخل يركض ويصرخ، أردت أن أقترب أكثر لكنّ الدّخان حال دون ذلك، فلم أقدر أن ألتقت نفساً. غبت عن الوعي، واستيقظت في بيت صديقي، كان جالساً بجانبي، سألته عن المنجر، لم يجيب، فقمت وذهبت إليه لأرى بعض النّاس تخمد الحريق الّذي امتدّ إلى الشّارع.
ثمّ وضع يده على جبينه، وأغمض عينيه. قالت والدتي:
- هل دخلت المنجر لترى مدى الخسائر؟
ردّ وهو مغمضٌ عينيه:
- منى، احترق مكتبي حيث كنت أدّخر الأموال، لم يعد هناك شيءٌ اسمه منجر.
ثمّ وقف، دخل غرفته وأغلق الباب خلفه.
أنت تقرأ
فلسطين حلمي
Acciónتركوا وطنهم ليتنعّموا بحياتهم, ونسوا أنّ النّعيم, كلّ النّعيم هو الوطن. لن أهاجر معكم لأتنعّم, فإمّا أن يكون نعيمي في وطني, وإمّا أن أسقي أرضه من دمي