الفصل الثّالث

210 16 5
                                    

ضربت أمّي جبينها بكفّها الأيمن وقالت:

-         ما هذا الهراء يا قاسم، لن نترك فلسطين.

-         لماذا؟ لشدّة الأمان فيها؟ أو لشدّة الرّخاء والرّفاهية؟

-         قاسم، هذا وطننا، شرفنا وعرضنا.

-         لم لأقل لكِ أنّنا سنتخلّى عن شرفنا، أو أنّنا سنترك عرضنا، قلت فقط أنّنا سنهاجر إلى مكانٍ آمن.

-         مجرّد ذهابك من وطنك هو انتقاصٌ لشرفك.

-         منى، لا أفعل هذا بإرادةٍ منّي، الظّروف هي الّتي أجبرتنا على هذا. ألا يشعر أحدكم بما أشعر به؟ ألم تري ماذا حلّ بمنجري؟ ألا تري الوضع المأساوي الّذي نعيشه الآن؟ ألا تترقّبي ما هو أسوء من هذا؟ فكّري بمنطق وضعي عاطفتك جانباً، إذا بقينا هنا، لن نعيش يوماً واحداً بهناء.

    شعرت أنّ أمّي بدأت تقتنع بوجهة نظر والدي، أمّا أنا فأعلم أنّني لن أقتنع بمثل هذه الأفكار مهما استعمل أبي من أساليب الإقناع.

    خرجت أمّي إلى فناء الدّار، ولحق بها والدي. تيقّنت أنّه يقنعها بفكرته بهدوءٍ ورويّة. لم أتمالك نفسي، لحقت بهما إلى الخارج وصرخت:

-         إن كان يقنعكِ بما قاله فشأنك أن توافقي أو لا، أمّا بالنّسبة لي، فأنّي لن أترك فلسطين حتّى لو اضطررت إلى أنّ أعيش بلا مأوى وبدون مُعيل.

نظر إليّ والدي باستغرابٍ مصحوبٍ بغضب، ثمّ التفت إلى أمّي فقالت:

-         حبيبي أحمد، لم هذا الانفعال كلّه؟ بعد أنّ وضّح لي والدك فكرته، وجدتها الحلّ الأنسب لنا جميعاً، وهو لم يفعل ذلك إلّا لمصلحتي ومصلحتك قبل مصلحته الشّخصيّة.

رددت عليها بعد أنّ خفّفت نبرة صوتي:

-         لا أريد مصلحتي إذا كانت خارج فلسطين. أنا باقٍ هنا ولا جدال في قراري.

ثمّ دخلت المنزل، واستلقيت على سريري.

    بدأت الأفكار تجول بخاطري: هل حقّاً سيبيع والدي البيت والمنجر؟ إذا صمّموا على الرّحيل كيف سأبقى هنا بمفردي وكلّ أخوالي وأعمامي قد هاجروا من عدّة سنين؟ هل ممكن أن يتركوني هنا ويهاجروا إلى بلدٍ آخر؟ ... وأنا على هذا الحال، أتى والدي وجلس بقربي، ثمّ وضع يده على كتفي وقال:

-         أحمد، إنّ وضع فلسطين لن يستقر، وإذا بقينا هنا، سنظلّ في حالة خوفٍ وقلقٍ كما اعتدنا في السّنين السّابقة، وهذا ما لا أريده لك. عدا عن هذا، فإنّ المصيبة الّتي حلّت بباب رزقي وقضت عليه وعلى أموالي الّتي فنيت عمري في ادّخارها، تجعل العيش هنا بمثل هذا الوضع أمراً مستحيلاً. فارتأيت أنّ بيع البيت والمنجر لشركة الاستثمار تلك الّتي عرضت عليّ مبلغاً ضخماّ هو أفضل حلّ، فبعد أن أبيعهما، نسكن في لبنان وأبدأ بالعمل هناك مستعيناً بهذه الأموال لافتتاح مصلحتي الخاصّة.

فلسطين حلميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن