الفصل السادس

962 52 2
                                    

ممنوع نقل الرواية بدون أذن الكاتبة
الفصل السادس

عادت خديجة من عملها بعد غروب الشمس تحمل في يدها العديد من المشتريات حتى أنها كادت تنزلق من يدها، وقفت أمام الباب تنادي مصطفي وتركل الباب بقدمها فلم تعد تقوى على حمل الأكياس أكثر من هذا، كانت تنظر في يدها عندما فتح الباب، لتتقدم وتعبره وهي تصيح بهم : هلا أتى أحدكما ليحمل ما بيدي .
هرع عبد الله إليها ليساعدها وأخذ ما تحمله، وبمجرد أن رأت خياله أمامها، انتفضت وقفزت إلى الخلف وهي تحملق به مذعورة، غير مصدقة أنه هو أمامها بشحمه ولحمه .
وقفت تنظر له وكأن فلاشات كاميرا تصوير فوتوغرافي تضرب في عينيها المرة تلو الأخرى، صور تظهر وتختفي لتظهر صورة أخرى، موت محمد .. ٥٦ .. التهجير .. العودة ... زواجها ... موت أبيها وأمها ... قتلها للرجل الذي حاول الاعتداء عليهما، صمودها أمام كل هذا، ظلت الفلاشات تظهر أمامها حتى خارت قواها وجلست على الأرض وهي تبكي بحرقة شديدة وتردد كلمات محددة : لقد حافظت عليها من أجلك، لقد أعدتها إليك، لقد وفيت أمانتي .
جلست عائشة بجوار صديقتها واحتضنتها من ظهرها وهي تبكي، فهي أعلم بحالها وقسوة ما مرت به من أجلهم جميعًا وحاولت تهدئتها وهي تقول : لقد فعلتِ حبيبتي، لقد فعلتِ .
نظرت خديجة لصديقتها بعينين دامعة وقالت : لقد فعلت، صحيح يا عائشة !! ، فعلت !!، لقد قتلت من أجلك حتى تعودي إلى زوجك، لقد حافظت عليكِ، فعلت أليس هكذا ؟ .
أومات عائشة برأسها وقالت : نعم حبيبتي، نعم .
كان ( عبد الله ) يقف مصدومًا لا يعلم عما يتحدثان، ما الذي حدث ؟، من قتلت خديجة ؟، وأين عادل ؟ .
انتظر ( عبد الله ) حتي سكنت خديجة وبدأت تعود لطبيعتها وبعد الترحيب جلس وهو يقول : أريد أن أعرف كل شيء، الآن .
جلست الفتاتان وعندما همت عائشة بالكلام استوقفتها خديجة قائلة : أُتركي لي الحديث عائشة .
ثم نظرت إلى عبد الله وقالت : أتذكر يوم رحلت ؟، عندما طلبت منك البقاء من أجل زوجتك وابنتك، يومها أجابتني بأنك ذاهب للقتال من أجل أن تحافظ على شرفك وعرضك .
نظر لها عبد الله ثم قال : نعم أذكر .
فأردفت قائلة : أنا أيضًا قتلت لأحافظ على الشرف والعرض، ثم استطردت وقالت : لقد رجوتك ألا تتركنا مع عادل، فهو ليس أمينًا بالدرجة الكافية، ولكنك هاجمتني وكأنك لا تعلم معدن صاحبك، إذًا فلأبشرك، لقد باعنا صديقك أنا وزوجتك لأصدقائه من أجل حفنة من المال، لقد استباح شرفنا وعرضنا من أجل أن يأمن سلامته، لقد جلس يشاهدنا ونحن نذبل وأطفالنا على شفا الموت دون أن يحرك ساكنًا أو يحاول أن يعمل حتى يسد جوعنا، لقد جلس يشاهدني وأنا أمضي في الطرقات كل يوم أطرق الأبواب لعل أحدهم يأخذني أجيرة عنده دون أن يهتز له بدن، لقد شاهدني عندما كنت أعمل في دكان عم حسني البقال، ورأى سخافات أصدقاء السوء الذين كان دائمًا يجتمع معهم، ونظراتهم الوقحة لي ولَم تتأثر النخوة بداخله، وفِي الأخير أوصلنا لبيت هولاء الرجال بحجة أن نساعد سيدة مسنة مريضة، أوصلنا إليهم وهرب تاركنا نواجه هؤلاء الوحوش المفترسة .
صمتت خديجة للحظات تحاول أن تستجمع قواها، كانت الدموع تنساب على وجنتيها بلا توقف، وعيناها زائغتان لا تنظران إلى مكان ثابت ثم قالت : لقد حاولوا .. لقد حاولوا .. كانوا يريدون أخذ ما ليس لهم، كانوا يريدون أن يسلبونا الشيء الوحيد المتبقي لنا، الشرف، لم يكتفِ زوجي بأن أرى أمي وأبي وهما تحت الأنقاض ولا أستطيع أن أواريهما الثرى، لم يكتفِ بترحيلنا من مدينتنا وبيتنا والعذاب الذي قاسيناه، لم يكتفِ بأن جرح قلبي لم يشفَ قط بعد فراق محمد ولن يُشفى أبدًا ، لم يكتفِ بأن العدو أخذ منا كل شيء، الأهل والبيت والحبيب والوطن، ألم يكفِه هذا، لقد صمدنا رغم كل تلك الخسائر، صمدنا وفِي القلب جرحًا غائرًا ، ولكن ما حاول فعله لو كان حدث لما استطعنا أن نصمد أبدًا بعده، لقد أخذت السكين التي رأيتها أمامي وطعنته بها مرة تلو مرة تلو أخرى، ولو استطعت أن أطعنه ألف مرة لفعلت، ولكنه سقط صريعًا، مات سريعًا ولَم يترك لي الفرصة لأن أشفي غليلي منه، كنت أريد أن أجهز على الأخرين، ولكن خوفي على عائشة وولدي وابنتك منعني، استطعنا الفرار منهم قبل أن يمس أحدهم شعرة واحدة من إحدانا، ركضنا لنصل لمصطفى وفاطمة، فوجدته يقف هناك ينتظر ليرى نتيجة خسته، كانت السكين ما زالت بيدي، كنت أودّ لو أضعها بقلبه وأضغط عليها حتى أقسمه نصفين، ولكن منعني شيءٌ واحد، ابني، لا أريد أن يوصم بلقب أمك قتلت أباك، لن أحتمل أن يعيش هكذا .
كان عبد الله يستمع في ذهول، كل هذا حدث لهما، كل هذا صدر من عادل صديق طفولته، كان يشعر أنه في كابوس، جالت في رأسه صور عديدة عما كان سيحدث إذا لم تستطع خديجة المواجهة، إذا تغلبوا عليهما، مجرد التفكير يجعله يشعر بغصة شديدة في قلبه، وشعور بالغثيان لا يتحمله، كيف يفعل هذا ؟ ، رجالنا وشبابنا وحتى الأطفال منهم يحاربون في القنال يدافعون عن كل شبر في هذه البلد، يبذلون كل ما هو عزيز ونفيس من أجل ترابها، ويأتي هولاء يريدون أن يدنسوها بأفعالهم، أي حقارة تلك، وأي خسة، نيران تشتعل في صدره تأكله من الداخل، غضب شديد من نفسه أولًا لأنه تركهم له، ومن العدو لأنه السبب فيما يحدث لهم، ومن عادل ذلك الفاجر الذي لن يكفيه قتله حتى يبرد تلك النيران المشتعلة، كان يحاول أن يتماسك ويكبت ما يدور بداخله حتى لا يزيد من إيلامهما يكفي ما عانياه، ثم انتبه عندما أردفت خديجة حديثها وأخبرته على الطلاق وما فعله عّم حسني حتى وصلت ليومنا هذا، وأخيرًا قالت : نحمد الله على سلامتك، يكفينا هذا أنك عدت لزوجتك وابنتك، ثم نظرت لعائشة وقالت : هيا حبيبتي، لنعد لزوجك العشاء، فيبدو من هيئته أنه نسي طعم الطعام .
قامت الفتاتان لتحضير العشاء والمائدة، تاركين عبد الله وقد بلغ أشده واستشاط غضبًا وعزم بداخله على الثأر من ذلك المدعو عادل الذي ظن يومًا ما أنه يملك صفات الرجال .
جلس الجميع  علي المائدة لتناول العشاء وأثناء انشغالهم بالطعام تحدث عبد الله ليخبرهم بأمر يثلج الصدور ويريح النفس والقلب فقال : أريد أن أحدثكم في أمرٍ هام .
انتبه الجميع له وتعلقت الأعين بوجهه وهناك قلوب شعرت بالخوف مما قد يكون هذا الأمر ولكنه بادرهم قائلًا : لقد تم دفن والديكما في مقابر العائلة، قبل رحيلي أوكلت الأمر لزمائلي في المقاومة، كنت أعلم أن الأمر شاقًا عليهم، وخاصة أثناء الظروف المحيطة بهم، ولكن عندما عدت علمت أنهم استطاعوا إخراجهم من تحت الأنقاض ودفنوا جميعًا معًا، وقد صلوا عليهم صلاة الجنازة .
وكأن عبد الله يخبرهما  بموت والديهما من جديد، انخرطتا في البكاء، حزنًا على خسارتهما، وكأن ما قاله كان إشارة لهما للحداد، لم يملكا من قبل تلك الرفاهية، لم يكن هناك وقت ولا مقدرة عليها، وكأن القلوب تحجرت وقست من كثرة ما رأت ومن رائحة الموت التي كانت تحاوطهما من كل مكان، الآن فقط ينعمان بالهدوء والراحة، الآن فقط تستطيع كلًا منهما أن تزيح من على عاتقها الشعور بالخزي والهزيمة عندما رحلت وتركت والديها تحت الأنقاض .
نهضت عائشة مسرعة من مجلسها لتحتضن زوجها وتقبل رأسه وهي تقول : ربي يحفظك لنا، لقد أثلجت القلوب، وأرحت الضمائر، وأنعمت علينا بالسكينة .
كان يومًا جميلًا، شعر الجميع فيه بالسعادة بالرغم مما هم فيه ولكن مشاعرهم كانت تعكس غير هذا، الرضى بنعم الله، الفرحة بقدوم عبد الله، والشعور بالفخر به، كان يطغى على أي خسائر وأوجاع أخرى، لذا مر اليوم بسلام، وذهب الجميع للنوم ومع خيوط الشمس الذهبية الأولى نهض عبد الله مبكرًا قبل الجميع وقام بارتداء ملابسه، ثم وقف ينظر إلى وجه زوجته الملائكي، كم كان يشتاق إليها ؟ ، كم حلم بضمها إليه ؟، كم عدد المرات التي كان يستمع إلى صوتها الذي كان يطغى على صوت القنابل ؟ ، اااه إنها هي من أعطته القوة والعزيمة ليعود، هي فقط، والآن يجب عليه أن يرحل في مهمة صغيرة، لا يستطيع أن يتجاهلها، أو يتوانى عنها، ولتعلمي يا حبيبتي أني أفعل هذا فقط من أجلك أنت وابنتي، حتى لا تتغير نظرة الفخر التي في عينيكِ، حتى لا تشعري في يوم أن زوجك قد يتخاذل في واجبه نحوك، حتي لا تشعري أني لم أكن أمانك وحمايته في يوم، ثم انحنى يقبل شفاهها التي لم يمل منها يومًا أو ينسى مذاقها، ثم رحل .
استيقظ الجميع من النوم، ونهضت عائشة لتعد الفطور وتبحث عن زوجها الذي نهض من فراشه مبكرًا لكنها لم تجده .
وقفت في منتصف الصالة، تائهة، مشتتة، لا تعلم أين هو ؟، وعندما نهضت خديجة أسرعت إليها وهي تقول : هل جننت ؟، هل كنت أحلم ؟ أم ماذا ؟، هل وصل بي الحال أن أتوهم وجود زوجي بجواري ؟، أشتم عطره ؟ ، أشعر بلمساته لي ؟ ، أتذوق طعم قبلاته مرة أخرى على شفاهي ؟، كل هذا كان خيال .
كانت عائشة تتحدث وهي تبكي، لقد انهارت قواها ولَم تعد قادرة على تحمل الفراق أو الخسارة .
أما خديجة فظلت بجوارها تهدئ من روعها وتطمئنها بأنه لم يكن حلمًا وأن عبد الله لم يتركهما وأنه سيعود .
مر يومان وعادت الحياة  إلى طبيعتها مرة أخرى، فطاحونة الحياة  لا تتوقف في انتظار أحد، بل أنها قد تطحن من يتوقف،  تدهسه وتمضي في طريقها بلا أي شعور بالذنب أو محاولة انتظاره .
عادت خديجة لعملها كما كان الذي أصبح في ازدهار برغم ضيق الحال، ولَم تغفل يومًا عن ملاقاة سائق الشاحنة في الموعد المحدد لينقل لها أخبار عّم حسني ويطمئنها عليه، ويعود أيضًا بأخبارها إليه وطلبها المتكرر بأن يأتي للعيش معهم، ولَم تكن على علم بأن هذا سيحدث قريبًا.
مر أسبوع أخر وعائشة يأكلها الخوف من الداخل، ويعتصرها الألم من اختفاء زوجها بتلك الطريقة، إنه حتى لم يترك لها المجال لوداعه، لم ينتظر قليلًا حتى ترتوي منه وتنعم بوجودها بين أحضانه لبعض الوقت، كانت تحاول إخفاء ما تشعر به، ولكن خديجة ليست غافلة عنها وعما يدور بداخلها فقط فضلت أن تتركها ولا تحاول مواساتها أو الضغط عليها، فهي تعلم مقدار العذاب الذي تعانيه .
ولكن الله يعلم هذا المقدار، ويعلم كم قاست ؟، وتحملت، لذا لم يرد الله لها أن تقاسي مرة أخرى، بعد مرور أسبوع من مغادرة ( عبد الله )، عادت خديجة من العمل ولكن تلك المرة لم تكن بمفردها بل كان معها ( عبد الله ) وشخصًا آخر لم يتوقع أحد قدومه .

وسقط الحب بحرف الراءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن