٣- الثلج شاهد صامت!

5.6K 129 2
                                    

قام لوغان من كرسيه قرب الطاولة , وأقترب من النار , نظرت اليه جنيفر بعينين دامعتين وكأنها تناشده أن ينقذها من ورطتها , لم يتطلع نحوها وظل يحدق بألسنة اللهب المتراقصة , فقامت من مكانها ووقفت قربه , وضعت يدها على ذراعه , وهمست قائلة:
"أرجوك , يجب أن تفعل شيئا ".
تأمل وجهها وملامح القلق القريبة من الخوف في عينيها , ثم هز رأسه محتارا , نظر بسرعة الى الرجل المسن في سريره ,وقال:
" لا أعرف ماذا أفعل".
"لا يمكنني أبدا أن أنام معك في فراش واحد!".
لم تتمكن من أخفاء هلعها الممزوج بالخجل والحياء , فقال لها بهدوء ونعومة:
" لا تهلعي أو تفقدي أعصابك , يجب أن ننظر الى هذه المسألة بصورة منطقية , يرتدي كل منا ثيابه كاملة ,وما من شيء يمنعنا من النوم بثيابنا , أضافة الى ذلك , يمكنني أن أنام في هذا الجانب وأستعمل غطاء واحدا , فيما تنامين أنت في الجانب الثاني وتستخدمين الغطاءين الآخرين".
كلام منطقي وأقتراح لا بأس به, خاصة لأنه لم يكن لديها أي خيار آخر.
نظر اليها معاتبا , ثم مضى الى القول:
" أنه رجل مسن وعنيد , يا جيني , ولا يمكننا أرغامه على التخلي عن سريره, ثم , يمكنك التأكد من أنني لن أغازلك أو أحاول القيام بأي شيء غريب معك, أنه موجود كشاهد... وكحارس أمين".
درست ملامح وجهه بدقة وعناية , بدا لها مخلصا في كلامه ولهجته , السؤال الكبير الوحيد هو... هل يمكنها أن تثق به؟ ولكنها مضطرة لقبول الواقع , قالت له بأسى:
" حسنا,ولكن , توقف عن مناداتي جيني , ثم, أقسم بأنني سوف........".
قاطعها وهو يبتسم ويرفع يده بسخرية كأنه يعدها بشرفه, وقال:
" لا تقلقي أبدا! أقسم لك بأنني لن أضع يدي عليك".
أجابته بلهجة صارمة حازمة:
" الأفضل لك ألا تفعل ذلك , وألا لصرخت بصوت عال يحدث أنهيارات في هذه المنطقة".
دفعها برقة نحو الفراش , قائلا:
" هيا, أنت متعبة ومرهقة , تمددي تحت الغطاء وأرتاحي ".
ثم أخرج علبه سكائره من جيبه, وأضاف:
" سوف أدخن سيكارة , وأرتاح قليلا".
لم تجادله في هذا الأمر , بل سارعت الى الفراش وغطت نفسها حتى العنق , نظرت اليه بشكل لا يزال يوحي بعدم الأطمئنان اليه , ثم وضعت خدها على الوسادة , لاحظت فجأة أنها تنام على الوسادة التي تحمل قلبا وكلمة حبيبي , فأستبدلتها بسرعة مع الأخرى , ضحك لوغان عندما شاهد التحدي الصارخ في عملها هذا, وقال لها:
" تصبحين على خير , يا جيني غلين".
"تصبح على خير".
أطلقت كلماتها الثلاث هذه بنبرة قوية وصارمة , وكأنها تحذره للمرة الأخيرة من أي تصرفات سيئة محتملة , أدارت وجهها بعيداعن النار , نحو المنطقة المظلمة من الكوخ, أرتاحت لجو السكينة والهدوء الذي يخيم على تلك الغرفة الصغيرة , ولكن ذلك لم يدم طويلا ,فالرجل العجوز يتحرك في سريره بين الحين والآخر , والمقعد القديم الهزاز الذي يجلس عليه لوغان يئن ويتوجع تحت حمله الثقيل , والخشب المحترق يطلق أصواتا معينة بين فترة وأخرى , ألا أن الرياح القوية التي كانت تعصف وتصفر في الخارج , كانت أكثر الأمور أزعاجا لها , أحست بأن الباب سيقتلع من مكانه في أي لحظة , وأن الكوخ بكامله سينتقل من موقعه.
تلاشت قواها وأرتخى جسمها , ولكنها لم تتمكن من النوم , لم يكن الغطاء السميك كافيا للتخفيف من قسوة الأرض , فتألمت وتوجعت , وكانت الوسادة أيضا صلبة كالحجر , فتململت وتعذبت ,شعرت وكأنها تتوقع حدوث شيء ما ... كتسلل لوغان الى الفراش وأقترابه منها , أزداد توتر أعصابها عندما سمعته يقوم من الكرسي الهزاز , أصغت بأنزعاج بالغ وهو يخلع الحذاء الكبير ويسير نحوها , أغمضت عينيها بسرعة , رفع الغطاء الخفيف...!
أنتهى كل شيء! نام تحت الغطاء وحده , كما وعد!
أستمعت بعناية بالغة الى طريقة تنفسه , كانت عادية جدا ,وكان الرجل مستلقيا على ظهره , حبست أنفاسها عندما بدأ يتحدث اليها قائلا:
"نامي , يا جيني , سيكون كل شيء على ما يرام".
أحست فجأة بأنها آمنة , ولم تعد خائفة أو مذعورة , أرتاحت أعصابها...وغطت في نوم عميق كانت تحتاجه الى درجة كبيرة .
" تبدين مرتاحة ونشيطة جدا هذا الصباح".
لاحظت أنه يتأمل وجهها بأهتمام شديد , مع أنه كان يبتسم , تطلعت حولها نحو الأشجار والأرض المكسوة بالثلوج , وتمتمت قائلة:
" لا يمكنني أن أصدق جمال هذه المنطقة وروعتها , لا أشعر بالبرد , وكأن هذه الطبقة السميكة من الثلج ليست ألا كمية من المساحيق البيضاء الجافة".
حمل الأخشاب التي كان يجمعها , وقال:
" السبب الرئيسي هو توقف الريح الذي يلسع الأجسام".
أبتسمت وقالت:
" ثمة أغنية جميلة عن الثلوج في مثل هذه الحالة , أنظر الى الأشجار ,أنها تبدو وكأن كمية كبيرة من السكر نثرت على أغصانها وأوراقها! أنظر الى أشجار الصنوبر هناك على قمة تلك التلة! يا لروعتها!".
كان السرور واضحا على وجهها وعينيها , شعرت بسعادة بالغة , وبأنها لم تعد مضطرة للتصرف بتحفظ وحذر كما في الليلة الفائتة ,ثم شاهدت كومة جميلة من الثلج على الكوخ المنعزل , فشهقت وقالت بأرتياح ظاهر:
" أنظر, يا لوغان, الى كوخ السيد كامايكل!".
أقترب منها وقال لها بأستفزاز لطيف:
" كنت بدأت أعتقد أنك نسيت أسمي".
وجهت اليه نظرة سريعة , وهي مسرورة لأن وجنتيها كانتا محمرتين قبل سماعها تلك الكلمات ... وقبل مشاهدتها تلك النظرات التي تبعث الدفء في جسمها وقلبها , قالت له بسرعة:
"ما أجمل الطبيعة! أنظر كيف تجمع الثلج في تلك الزاوية وكأنه قالب كبير من الحلوى".
أبتسم لها لوغان بحنان , فيما كان يتأمل وجهها الناعم الصغير , وقال:
"أما أنك لم تتناولي فطورك هذا الصباح , وأما أنك تحبين الحلوى الى درجة كبيرة!".
ضحكت وقالت:
" من لا يريد قطعة كبيرة من الحلوى الآن ؟قطعة مغطاة بكمية لا بأس بها من هذا الثلج النقي الناصع البياض؟".
وضع الأخشاب على الأرض وهو يبتسم بدهاء , ثم قال:
" يبدو أنك لا تريدين شيئا أكثر من الثلج".
صرخت به ممازحة , عندما شاهدته يعد كرة ثلجية صغيرة في يديه:
" لوغان تايلور , أياك!".
أبتعدت عنه بسرعة , فيما كان يقذفها بتلك الكرة , أرتطمت بظهرها , وتناثرت على معطفها , أنحنت لتعد كرة تقذفه بها ,ولكنه كان أسرع منها بكثير , تساقطت عليها كميات الثلوج الصغيرة كالقنابل , أحست وكأنها تواجه خمسة أشخاص دفعة واحدة ,ركضت نحو الكوخ ضاحكة , ومحتجة على عدم وجود تكافؤ بين المحاربين , أصابتها كرة في ساقها , فوقعت على تلة ثلجية صغيرة , ساعدها لوغان, فأنقلبت على ظهرها وهي تضحك بسرور بالغ وتحاول أزالة الثلج عن وجهها , جلس قربها وراح ينفض الثلج عن جبينها وشعرها.
كان قريبا منها لدرجة مزعجة , أنتبهت فجأة لوجودها على ذلك الشكل الذي يغري الرجل البارد ... فكيف بالرجل الذي يضج حرارة! تحول ضحكها الى أبتسامة هادئة , وكررت له همسا كلمة , لا, مرات عديدة.... فيما كانت تحاول الوقوف على قدميها ,ولكنه أمسك بذراعيها ومنعها عن النهوض , قائلا بهدوء:
" كنت تتوقعين شيئا كهذا منذ اللحظة الأولى , وأنا بالتأكيد لا أريدك أن تشعري بأي خيبة أمل".
عانقها بطريقة قوية , مطالبا بتجاوب لم تكن راغبة في منحه , قاومت مشاعرها التي كانت تريد منها أن تتجاوب , لم تكن مستعدة لعناقه القوي والحنون ,ولاحظت برعب وهلع أن عاطفتها رفضت الأذعان لأوامر عقلها , شهد عقلها وتفكيرها حربا بين المنطق والعاطفة التي فازت ولو للحظة معدودة.
أبعدت وجهها عنه بسرعة , وخلصت ذراعيها من قبضته , تأملها لوغان بتأثر وهي تبتعد عنه, وقال:
" لا شك في أنه عذّبك كثيرا".
نظرت اليه بأستغراب وسألته بصوت خافت:
" عمن تتحدث؟".
" عن الرجل الذي تركته في مينابوليس ".
لمع الغضب في عينيها , وهي تجيبه بحدة:
" لا , لم يعذبني , جهلي وسخافتي هما اللذان عذباني , لم أكن أعرف الذئب عندما يقف أمامي , أعمتني الجاذبية والوسامة , والتصرفات اللبقة الساحرة".
"والآن؟".
ردت عليه بسخرية واضحة:
" الآن... أصبحت أرى الحقيقة عبر الأقنعة والتظاهر والأدعاء , وآمل في أن تكون أختي أيضا قادرة على ذلك".
أقترب منها وكأنه يتهدد ويتوعد , ثم توقف فجأة عندما سمع صوت جرس صغير , تطلع بسرعة نحو مصدر الصوت وهو يتنفس ببطء وتمهل , ثم نظر الى ملامح التحدي والعنفوان في وجهها وعينيها , وقال:
" أنه كارمايكل , يبدو أنه أحضر حصانه ليجر لنا السيارة, الأفضل أن تجمعي أغراضك وتستعدي للذهاب".
وما أن أستدارت نحو الكوخ , حتى أضاف قائلا:
" لا تتوقعي مني أي أعتذار , وأن لم تكوني مرائية فسوف تعترفين بذلك".
حدقت به والدموع في عينيها , تحرقهما وتعذبهما , لماذا أفسحت له المجال ليعرف بأنه أعجبها؟ لماذا وضعت في يده هذا السلاح؟ صرخت بصوت مرتجف:
" من المؤسف جدا أن أمثالك من الرجال يثيرون دائما المشاعر الدنيئة ! وأكثر من ذلك , أنهم يفرضون على النساء التحفظ الى درجة التقوقع والعزلة!".
ركضت بسرعة نحو الكوخ, لأنها لم تكن على أستعداد لخوض معركة كلامية معه... تعرف مسبقا من سيكون المنتصر فيها , سرها الى حد ما أنها تمكنت من أنقاذ القليل من كبريائها وعزة نفسها.
ساعدهما كارمايكل في أعادة السيارة الى الطريق , وبعد ذلك , لم تستغرق المسافة القصيرة حتى جاكسون أكثر من عشرين دقيقة , أنقشعت الغيوم بعض الشيء , فتمكنت جنيفر من مشاهدة الجبال الرائعة الجمال والأشجار التي تغطي منحدراتها كنقط سوداء متناثرة هنا وهناك.
دخلا البلدة الصغيرة الهادئة , فألتفتت نحوه وفي رأسها مجموعة كبيرة من الأسئلة التي تريد توجيهها ... مع أنها لم تكن راغبة في قطع حبل الصمت المخيم عليهما , قال لها لوغان بهدوء , وكأنه قرأ أفكارها:
" تحمل هذه البلدة أسم صياد من الرواد الأوائل.. جاكسون ,كان أبناء الجبال قديما يصفون جميع الوديان التي تحيط بها الجبال ... بالحفر ,وبما أن جيمي جاكسون كان يفضل الصيد هنا أكثر من أي مكان آخر , بدأ رفيقه يسمي هذه المنطقة... حفرة جاكسون ".
شعرت بأنها تريد معرفة المزيد من المعلومات عن هذه المنطقة , بغض النظر عن مصدر تلك المعلومات , سألته بأهتمام:
"وماذا عن هذه الجبال , تيتون العظيمة؟ هل حصلت على أسمها من الهنود الحمر؟".
أجابها وهو يحول سيارته الى شارع فرعي:
" لا, فالذي أطلق هذا الأسم على أعلى ثلاث قمم كان صيادا فرنسيا , سماها القمم الثلاثة , وسمى أعلاها القمة العظيمة".
تمتمت جنيفر ببضع كلمات مبهمة دلت على الحياء والخجل , ولكن لوغن تجاهل هذا الأمر وقال لها:
" سآخذك الى بيت شيلا الآن , أنها ليست هناك على الأرجح , ولكننا سنتمكن على الأقل من وضع حقيبتك هناك".
أوقف السيارة بعد قليل أمام منزل رائع الجمال , مصنوع من خشب الصنوبر , وما أن شاهد سيارة زرقاء الون متوقفة أمام مدخل البيت ,حتى قال:
" هذه سيارتها, يبدو أنك محظوظة".
حضر على الفور كلب قوي ضخم الجثة ينبح بحدة ويهز ذيله , أبتسم لوغان وقال لها , فيما كان يفتح باب سيارته لينزل:
" هذا هو أول عضو في لجنة الأستقبال".
سمرتها أبتسامته القوية المزعجة في مكانها بعض الوقت , أحست بوضوح تام أن هذه لن تكون المرة الأخيرة التي ستضعف فيها أمام رجوليته وجاذبيته أمر لوغان الكلب بالجلوس , فشعرت ببعض الأطمئنان , وفتحت باب السيارة لتنضم اليه , وفيما كان يلاعبه و يداعبه, هجم عليه طفلان يرتديان ثيابا ملونة نظيفة , رمى الكبير نفسه بين ذراعي الرجل وهو يصرخ:
"خال لوغان, خال لوغان! قلقنا كثيرا بسبب هذا التأخير !".
تأملت جنيفر بذهول ودهشة الترحيب الحار الذي لقيه لوغان , والطريقة التي حمل بها الطفلين الصغيرين وضمهما اليه بمحبة وحنان ,قالت الصغيرة وهي تلثغ:
" أخبرتنا أمي لأنك ستأتي ليلة أمس".
أبتسمت جنيفر فورا لدى سماعها لثغة أبنة أختها , سيندي , نظر لوغان نحوها بعينين جميلتين جذابتين , قال للطفلين:
" تأخرنا أنا وخالتكما جيني بسبب عاصفة ثلجية , أضطررنا للأنتظار حتى الصباح , قبل أن نتمكن من متابعة السفر , أين هي والدتكما الآن؟".
قال أريك الصغير , فيما كان لوغان ينزله وأخته الى الأرض:
" أنها في الداخل , هل أمضيت الليل كله في السيارة؟".
داعب رأس الصبي بحنان ظاهر, وقال:
" لا , أيها الحبيب , أمضيناه في بيت صغير مجاور , هيا الآن للترحيب بخالتكما قبل أن تتصور أنكما لستما سعيدين بوصولها".
أطاعاه بتهذيب وتطلعا نحو جنيفر ,وهما يتمتمان ببعض كلمات الترحيب المعتادة , لم تتوقع منهما أكثر من ذلك , لأنها لم تلتق بهما سوى مرات قليلة جدا منذ أنتقال شيلا الى جاكسون , كيف يمكنهما أن يتذكرا أنها حملتهما ساعات طويلة كطفلين صغيرين أثناء وجود أمهما مع الأهل؟ راقبتهما بأعجاب وهما يركضان الى البيت, يتبعهما الكلب الأمين داين وفجأة , سمعت لوغان يسألها بخبث واضح:
"هل فوجئت قليلا بطريقة ترحيبهما بك؟".
"لا, كنت أتوقع ذلك".
" يقال أن غريزة الكلاب والأطفال على حد سواء , ترشدهم بطريقة صحيحة الى كيفية التصرف مع الناس".
أرادت أن ترد على سخريته اللاذعة بكلمات قاسية , ولكنها أمتنعت عن ذلك عندما شاهدت شقيقتها تركض نحوها بشوق وتلهف صادقين , تعانقت الأختان بحرارة , وكانت جنيفر ممتنة جدا لأن شيلا بدأت توجه أسئلة متلاحقة وهي لا تنتظر لأكثر من نعم أو لا , أدخلتهما شيلا الى البيت ,وطلبت من لوغان أن يضع الحقيبتين في أي مكان يجده مناسبا , ثم قالت لهما:
" القهوة جاهزة , ولدي أيضا بعض الحلوى اللذيذة في المطبخ , من المؤكد أنكما لا تمانعان بفنجان قهوة قبل الغداء".
" أعذريني يا شيلا , فمن المؤكد أن أمي قلقة علي , يجب أن أذهب فورا لرؤيتها , قبل توجهي الى المزرعة ".
أصرت على بقائه , قائلة بشيء من التوسل والمناشدة:
" أوه , يمكنك الأتصال بها من هنا".
ضحك لوغان , فيما كان يتأمل شعر شيلا الأسود وعينيها الجميلتين ,وقال:
" أنها من الأشخاص الذين يفضلون رؤية الأنسان على سماع صوته عبر الهاتف , بالأضافة الى ذلك , أنت وجيني تريدان الأختلاء ببعضكما قليلا قبل ذهابك الى الفندق".
ضحكت شيلا وقالت:
" جيني؟ هل قلت جيني؟".
ثم نظرت نحو أختها وقالت لها بمرح ظاهر:
" أوه , لا شك في أنك مسرورة جدا بهذه التسمية الجديدة".
تطلع لوغان بجنيفر مليا , فيما كان الغضب العارم جليا على ملامحها ,وقال:
" تكونت لكل منا , جيني وأنا , أنطباعات معينة عن الآخر.كانت رحلة من العمر , لا أستبدلها بأي شيء".
ثم أبتسم بخبث ,وقال:
" يجب أن أذهب الآن , يا شيلا".
تدخل أريك متوسلا:
" لا تذهب , يا خال لوغان , سيندي وأنا نريدك أن تبني لنا قلعة من الثلج... طالما أن الطفل نائم ولن يزعجنا".
أجابه بأصرار, ولكن بنعومة ومحبة:
" مرة أخرى , أيها الحبيب".
تنهدت شيلا , ثم أمسكت بيديه وقالت:
" بما أنك فعلا ستذهب , فدعني أشكرك على أستقبال جنيفر وأحضارها الى هنا".
راقبت جنيفر بألم مزعج , كيف رفعت أختها نفسها قليلا وطبعت قبلة ناعمة على وجه لوغان , أحست بأن مخاوفها لم تكن أوهاما أو من نسج الخيال , أختها متورطة عاطفيا مع هذا الرجل , أرادت أن تهجم عليه وتقلع عينيه الساحرتين من مكانهما , عندما أستدار نحوها وودعها قائلا:
" الى اللقاء يا جيني غلين , سأراك في وقت لاحق".
رددت شيلا هذا الأسم بأستغراب , بعد أن غادر لوغان بيتها وأغلق الباب وراءه , قطبت جنيفر حاجبيها قليلا ,وقالت:
" أرجوك ! يكفيني أزعاجه هو!".
أبتسمت شيلا وقالت:
"أحب أسم الدلال هذا , فله رنة موسيقية , جميلة ,أستغرب جدا كيف أننا لم نفكر أبدا بمناداتك على هذا النحو".
عقدت جبينها غضبا وأستياء , لأنها أحست بأن أختها توافق على كل شيء يفعله لوغان أو يقوله , مارست ضبط النفس , وقالت لأختها:
" ربما لأن الوالدة لا تحب تصغير الأسماء أو تدليلها , وأنا أوافقها على ذلك تماما".
"خالتي جيني , هل تحبين رؤية غرفتي ؟لدي ألعاب مسلية وجميلة جدا".
تدخلت الأم على الفور , قائلة بمزيج من الجدية والمرح:
" يجب أن تتعلمي أولا لفظة السين بشكل صحيح , في أي حال , خالتك متعبة الآن وبحاجة للراحة , أذهبي مع أريك الى الخارج , وخذي معك داين".
ثم أمسكت بيد أختها ,وقالت لها بحنان:
" تعالي معي الى المطبخ لنشرب القهوة ,وبعدها نتحدث عن كل شيء".
لم تطلع جنيفر شقيقتها على كافة التفاصيل , وخاصة فيما يتعلق بلوغان تايلور , كيف يمكنها أن تخبرها عن تلك القصة المخجلة التي حدثت في المساء , أو عن ذلك العناق الذي تبادلاه صباح هذا اليوم ؟ لاحظت أن شيلا تضعه في مكانة رفيعة وتنظر اليه بأعجاب كبير , لم ترغب في أن تعمل فورا على تغيير رأي أختها به , حولت الحديث بسرعة ولباقة الى الأولاد والفندق , والحياة في جاكسون.
حدثتها شيلا عن ترددها في أخذ أولادها بأستمرار الى والداي أريك , وخاصة في نهاية الأسبوع وأثناء العطل المدرسية ... كما هو الحال في الوقت الراهن , فهما شخصان متقدمان في السن , ويجدان صعوبة كبيرة في الأهتمام بهذين الشقيين ... علما بأنها تأخذ الطفل الصغير معها معظم الأحيان , تبرعت جنيفر بسرور أن تهتم بالأولاد الثلاثة معا , وبأن تحل محل أختها بين الحين والآخر في الفندق كي ترتاح قليلا من عملها.
ساعدت الأيام التالية في شد الروابط بين جنيفر وأختها من جهة , ومع الأولاد من جهة أخرى , وجدت متعة كبيرة في أعداد الطعام لعائلة كبيرة , وفي ترتيب البيت وتنظيف الثياب ... وفي تحمل الكثير من الأعباء التي كانت ترهق كاهل أختها , أما بالنسبة لبرادلي ستيفنسن , فقد شعرت بسرعة أنه أصبح طي النسيان... صفحة قديمة من الماضي؟
تمنت لو أنها تجد سهولة مماثلة في تناسي لوغان تايلور , ولكنها كيف ستتمكن من ذلك! فأسمه دائما على لسان الأولاد جميعهم... يتحدثون عنه بأستمرار , يرددون ما يقوله بالنسبة لهذا الموضوع أو ذلك , يطالبون به ,ويسألون عنه , وعندما يغيبون , تذكرها به شيلا ... هكذا قال , هكذا أقترح , هكذا يعتقد!
مضت ثمانية أيام على وجودها في جاكسون بدون أن تراه , كانت ممتنة لأنها , على الأقل , لا تتعرض لملاحظاته اللعينة وأبتساماته الساخرة ,ولكنها أعترفت لنفسها بأن صورته تلاحقها بأستمرار... ربما لأن الجميع يذكرونها به ,بطريقة أو بأخرى.
لم تكن شيلا مضطرة للذهاب الى عملها بعد ظهر هذا اليوم , فأصرت على أختها بأن تخصص هذا الوقت لأمورها الخاصة , قبلت جنيفر بتردد , وقررت أن تزور بعض المحال التجارية لأبتياع هدايا الميلاد , لم تجد صعوبة في أختيار هدايا الأولاد ,ولكنها أرادت أن تمضي بعض الوقت قبل شراء هدية مناسبة لأختها.
حملت جنيفر علب الهدايا وذهبت الى ساحة البلدة , توقفت قليلا أمام القنطرة التي تغطيها قرون الوعول والظباء , وراحت تتأملها بأعجاب منقطع النظير , علمت في وقت سابق أن رؤوس هذه الحيوانات وقرونها تستخدم في جاكسون كأدوات للتزيين والتجميل , وتذكرت قاعة الفندق التي تعمل فيه شيلا , مزينة بقرون الأيائل:
" لا تحاولي عدها , فهي كثيرة جدا".
أستدارت جنيفر بسرعة لتواجه لوغان تايلور , ينظر اليها بعينين فاحصتين , ألتقطت أنفاسها , وقالت له بحدة:
" لم أكن أعدها".
"حسنا , كنت أذن تتأملين بأعجاب هذه الطريقة الفريدة التي نعتز بها هنا في جاكسون!".
"نعم , هذا ما كنت أفعله بالضيط , أنني أجدها فعلا مثيرة للأعجاب".
" هكذا يعتبرها معظم الناس , هل تعرفين أنها جميعا قرون أيائل؟".
أبتسمت رغما عنها وسألته بهدوء , وهي ترفع نظرها مرة أخرى الى القنطرة:
" كيف تم جمع مثل هذا العدد الكبير؟".
" ليس هناك صعوبة حقا , فألى الشمال من هذه البلدة , تقع منطقة تلجأ اليها الأيائل أثناء الشتاء , والمعروف أن ذكور الوعول تتخلى كل سنة عن قرونها , لتنمو مكانها قرون جديدة".
ضايقتها نظراته الدافئة المغرية , فتوترت أعصابها وتسارعت دقات قلبها ,حاولت جاهدة أن تبقي الحديث عاما وبعيدا عن الأمور الشخصية , فقالت:
" سمعت أحدا يتحدث عن تلك المنطقة , ولكنني لم أعرها أهتماما يذكر , كم من الوعول تلجأ اليها كل شتاء؟".
"ما بين ستة وثمانية آلاف ".
" أوه, الى هذه الدرجة؟ وماذا يفعلون بكل هذه القرون؟".
ضحك لوغان وقال:
" الذكور وحدها هي التي لها قرون , يذهب أفراد الفرق الكشفية كل ربيع ويجمعون هذه القرون , ثم يبيعونها هنا في ساحة البلدة بمزاد علني يخصص ريعه لتطوير فرقهم ونشاطاتهم".
توقف فجأة , فنظرت اليه لتواجه بنظرات قوية جذابة جمدتها في مكانها , تأملها قليلا , ثم قال:
" البرد شديد في هذه الزاوية , تعالي وأشربي معي فنجانا من القهوة الساخنة".
لم تكن راغبة أبدا في الجلوس معه , هزت رأسها بتردد , وقالت:
" أنا... أنا...".
" خائفة؟".
أجابته بحدة بعد أن أستعادت فجأة صوتها الذي كادت تفقده قبل قليل:
" طبعا لا!".
" سنذهب الى ذلك المطعم الشعبي في آخر الشارع ,حيث يمكنك أن تشاهدي المتزلجين على منحدرات الجبل".
وافقت بتردد , لأنها لم تجد عذرا مقنعا لرفض تلك الدعوة البسيطة , أنبت مشاعرها التي كانت تطالبها بالذهاب معه , طوق خصرها بذراعه وسار وأياها نحو المطعم , أبتسم وقال لها:
سوف تشربين الآن قهوة أخف بكثير من قهوة كارمايكل , يا جيني غلين".
"لا تنادني بهذا الأسم! أنك فعلا متعجرف ومتغطرس!".
" تصورت أنك ستعاملينني برقة , يقال أن البعد يجعل القلب أكثر مودة وحنانا".
" لم تكن بعيدا ألا نادرا".
كان جوابها باردا وجافا , رفع حاجبيه أستغرابا , وهو يساعدها على الجلوس , فشرحت له ما عنته بتلك الملاحظة , قالت:
" أن لم تتحدث شيلا بصورة دائمة عن شخصيتك القوية ومزاياك الفذة, فالأولاد يرهقون أعصابي بالثرثرة عن الخال لوغان, لماذا يستخدمون معك هذا اللقب؟ هل هذه هي فكرتك , يا ترى؟".
" لا , أنها فكرة الأولاد أنفسهم , لم نجدأنا وشيلا أي ضرر في ذلك , أتصور أنهم أرادوا أعتباري عضو شرف في عائلتهم , أنهم ينظرون الى هذا الأمر بصورة جدية , وأنا كذلك".
تأملته بفترة وجيزة , ثم ركزت أهتمامها على فنجان القهوة الذي أحضرته النادلة:
" لماذا تحاولين جاهدة أن تحللي شخصيتي , يا جيني ؟ لماذا لا تقبلين بما تشاهدين؟".
" يقال أن الذي يلدغ مرة , يخجل مرتين".
" صحيح , ولكنني لم أحاول أبدا أن ألدغك".
" هل تقول لي الآن أن رجلا مثلك لا يحاول الأيقاع بكل فتاة يلتقيها؟".
" هل تسألين عن ذوات الشعر الأشقر المحمر أو عن الفتيات بصورة عامة؟ أتخيل أنك تصورين نفسك بعد عناقنا على الثلج ,وكأنك أمرأة وقعت في الشرك, لا, يا عزيزتي , كان مجرد عناق , لا أكثر ولا أقل".
تمنت لو أن بأمكانها توجيه صفعة قوية الى وجهه , لأزالة تلك الأبتسامة الساخرة الخبيثة , أرتجف جسمها غضبا , ونظرت اليه بعينين تقدحان نارا ,أبتسم وقال:
" مسكينة أنت, يا جيني غلين! تشعرين بالأهانة وأحتقار الذات, وجهك رمز للطفولة البريئة ,ولكن وحشا يتململ وراء النار التي تشتعل في داخلك! الحقيقة هي أنني أتمتع الى درجة كبيرة بأزالة هذه النظرة الطاهرة من وجهك الجميل".
" أذن , دعني أقترح عليك أن تجد شخصا آخر تتسلى معه ...لأنني في الحقيقة أجدك مزعجا للغاية".
حملت أغراضها وأستعدت لمغادرة المطعم , لم تتغير ملامحه , ولكن صوته كان حازما عندما قال لها:
" أنهي قهوتك , يا جنيفر".
سيجد متعة كبيرة لو أنها عصت ... أوامره .. وخرجت بعصبية من ذلك الباب , ثم راحت تتأمل المتزلجين على الجبل , سألها بهدوء عما أذا كانت ماهرة في التزلج ,فقالت له أنها هاوية ذات خبرة واسعة ,قال لها بصوت ناعم ينم عن شعور بالصداقة:
" يجب أذن أن نجد الفرصة للتزلج , أثناء فترة وجودك هنا".
" لست بحاجة الى مرافق عندما أذهب الى التزلج".
" ما تعنين حقيقة هو أنك لا تريدين وجودي أنا , يا جيني غلين ,حسنا ,ولكن لا تذهبي الى تلك المنحدرات وحدك في المرة الأولى , خذي معك شخصا خبيرا من هذه المنطقة , في أي حال , أذا كنت مستعدة للذهاب ... فهيا بنا , سيارتي موجودة في الخارج , وأريد التحدث مع شيلا , تأكدي بأن هذا هو هدفي الوحيد لأخذك الى البيت".
أغاظها جدا تصرفه المفاجىء , بدا وكأنه يريد أبلاغها صراحة بأنه غير مهتم كثيرا بها ,أحمرت وجنتاها غضبا وخجلا وهما يغادران المطعم ...وقررت أن تعامله بمثل الأستخفاف الذي يعاملها به.

حبيبتي جيني ...حيث تعيش القصص. اكتشف الآن