..الروزنامة الملعونة..
روزنامتي البيضاء تحمل أقطاباً متضادة، ساعةً تزيد من أيامها البيضاء، وساعةً أخرى ترمي بسهامها السوداء صوب عقلي، وفكري..
العاشر من نيسان عام ألفَان وأربعة عشر ميلادي.
اقتربت من الروزنامة المثبّتة على الحائط، وضعت علامة (X) باللون الأحمر على أول مربع من صف المربعات الفارغة، التي تسبقها ذات العلامة مبرهنةً أنها أيام مضت والمربعات البيضاء الفارغة، أيام قادمة.
تنهدت بوهن ثم أخذت نفساً عميقاً بينما تُتَمتم :
- تبقى شهر واحد، حسب كلامه. أتمنى أن تمر تلك الأيام على خير.
ارتدت معطفها الثقيل ثم خرجت من منزلها الخاوي بعد أن التقطت حقيبتها من أعلى إحدى الرفوف.. بمجرد أن صارت خارج المنزل، استقبلتها نسائم نيسان الباردة، والتي داعبت خصلات شعرها وأذناها المحمرتان، بينما تزفر بخارًا تكون عند ثغرها. رسمت بضع خطوات فوق كعبها العالي الذي ترتديه إلى وجهة ما، وأخيرا وصلت.
دفعت الباب الزجاجي لتدخل إلى المقهى الرّاقِ الذي يحمل عنوان ' مقهى ألبيسيرِن CAFFE' AL BICERIN'
ارتدت مريَلة العمل، عقدت شعرها الطويل للخلف، ثم بدأت باستقبال الطلبات.
تحدثت امرأة مسنةٌ ذات شفاه مزمومةٍ للداخل بسبب فمها الخالي من الأسنان:
- أريد علبة ماء فقط.
كانت أحرفها الفرنسية معجونةً بعض الشيء بسبب عدم تمكنها من نطق الأحرف بشكل جيد، ابتسمت الأخرى وهي ترد بلهجة فرنسية متقنة:
- بالطبع سيدتي.
بعد أن أخذَت العجوز علبة مائِها وخرجتْ بابتسامة وديعة، أصبح المقهى خاليًا، وعندما كادت أن تتسائل عن خلوِّ المكان، تذكرت بأن الوقت لازال باكراً.
اقتحم صمت المكان صوت الجرس الصغير الخاص بالباب الزجاجي وهو يُفتح من قبل شخص دخيل. ببدلة رسمية سوداء، شعر بني ناعم مصفف بطريقة مثالية، وابتسامة لطيفة. وأخيراً، ملامح بعيدة كل البعد عن ملامح الشعب الفرنسي، لنَقُل بشكل أوضح،
'ملامح آسيوية'.
راح يتفحص كل شبر من المكان بعينيه: السقف الذي تتدلى منه إنارات ذات أشكال ملفتة وضوء خافت، كراسٍ خشبية قرب طاولاتٍ سوداء دائرية الشكل، أرضية داكنة، وأخيراً النباتات الخضراء الاصطناعية، التي تتدلى من بعض الأركان..
قَطَع الصمت:
- مرحباً
ردّت هي بينما تقف خلف آلة المحاسبة:
- مرحباً سيدي، ما هو طلبك؟
رد بابتسامة أظهَرت نصف صف أسنانه البيضاء:
- في الواقع أنا وصلت إلى باريس للتّو، وتقريباً لا أعرف الكثير عنها، لهذا أ يمكنك مساعدتي في الاختيار؟
همهمت قليلاً ثم أضافت:
- حسناً، ما رأيك بقهوة فرنسية ساخنة، وبعضاً من حلوى الكورنَت اللذيذة؟
- تبدو جيدة
قالت بابتسامة:
- سأحضّر طلبك
رد باللغة الكورية:
아 라 써 요) -) حسناً
حدّقت به بتعجّبٍ طفيف، ليتبّه توًّا لما قاله مستلماً رده هذه المرة باللغة الفرنسية:
- أنا آسف، كنت أعني حسناً
(아 니 에 요) - لا مشكلة
صُدم هو الآخر أنها تتحدث الكورية أيضاً ولم يمنع نفسه من إشباعِ فضوله عندما سألها:
- إذاً تتحدثين الكورية؟
اتجهت إلى إحدى العلب الزجاجية الموضوعة بالجوار وبيدها إبريق معدني صغير، التقطت الملعقة التي بقلب العلبة الزجاجية لتحتوي فيها القهوة، فتضعها في الإبريق الصغير بينما تجيب:
- أجل، تعلمتها. هوايتي تعلم اللغات، لكن تلك الهواية تستنزف طاقة كبيرة، وعندما أتعلم لغة معينة لابد أن أركز عليها حتى أتقنها تماماً وليس أن أتعلم بعض الكلمات منها وحسب.
- إذاً إن كانت تلك هي هوايتك فكم لغة تعلمتِ؟
- تعلمتُ الكورية وأتقنتها إلى جانب الإنجليزية والإيطالية، أمّا اليابانية قليلا فقط.
- لكن ما هو السر في كون لكنَتك الكورية جيدة جدا؟
- أستمع كثيرا للمحادثات الكورية، وأردد خلفها عدة مرات. بالمقابل، أنت أيضاً لكنتك الفرنسية جيدة جدا، تُرى ما السبب؟
- عندما كنت أدرس تخصص التصميم بالخارج كان أحد الطلاب الذين هم بصفي ينتمي لجذورٍ فرنسية، عرفته بالصدفة، وبسببه أتقنت هذه اللغة.
أضافَت:
- أ تريد طلبك مَحليٌّ أم سفري؟
- محلي
وضعت صينية طلبه أعلى الطاولة، ثم بحذر وضعت القهوة الفرنسية التي تفترش وسادة من الرغوة الغنية بفقاعات الهواء واللون الأبيض الناصع الذي يشوبه بعض من ذرات الشوكولا الجافة على سطحها، إلى جانب عود البسكويت المغمور نصفه في المشروب. وقطعة حلوى الكورنات ذات الطبقات الداخلية الهشة، تختبئ أسفل غطاء من الشوكولا السائحة على سطحها.
أخذها شاكراً، ثم تبوأ مقعداً شاغراً. أخذ يشرب قهوته الفرنسية رشفةً خلف الأخرى وعيناهُ معلّقتان عليها، وهي تعيد ترتيب ركن تحضير المشروبات.
في الواقع هي لم تجد ما ترتبه أصلاً، بل تحاول ذلك؛ كي تهرب من نظراته التي لا تنوي أن تنفك عنها، والوقت يمر ببطئ.. ببطئ شديد للغاية.
صمت المكان، حرّضها على بدءِ محادثةٍ جديدة:
- إذاً.. ما الذي أتى بك إلى فرنسا؟
- أتيت لحضور عرض لمصممي الأزياء المقام هنا كَوْني من المشاركين فيه
لمعت عينيها بينما تتحدث:
- مصمم أزياء؟ هذا رائع سيد...
- بيون بيكهيون
- سيد بيون بيكهيون
- هل يمكنُكِ حذف كلمة 'سيد' عندما تنادينَنِي؟
- لكن لماذا؟
- لست متقدمًا جدًا في العمر كما أرى، لازلت يافعًا. إضافةً إلى أنني لا أفضل الرسميات
- وكم تبلغ من العمر؟
نظر بتحدي:
- خمني؟
همهمت قليلاً ثم أجابت:
- السادسة والعشرون؟
أطلق سهماً هوائياً وهمياً كأنه يصيب هدفاً ما:
- أصبتِ
قهقهت بخفة، ثم علّقَت:
-أنت لست صغيرًا أبدًا في عمرٍ كهذا، لكن يجب أن أعترف أن ملامح الشعب الآسيوي لا تكبر
هي علِمَت أنه كوريٌّ على الأغلب لذا لم تشأ سؤاله لتتأكد. سأل هو:
- لكن ماذا عنكِ؟
- خمّن أنتَ أيضاً؟
- أعتقد أنها العشرون
تصنّعَت الخجل بعد ضحكة بسيطة هربت منها:
- هل أعتبر هذا إطراءًا؟
- لا تفعلي أرجوكِ
عادت تقهقه بخفة ثم أجابَت:
- الخامسة والعشرون، أصغُرُكَ بسنة. أتطلع للعودة إلى المنزل، كي أبحث عن تصاميمك. ينتابني شعور صحيح أنها رائعة
- شكراً لك، أتمنى أن تعجبك
استرقت النظر لطبقه الفارغ والذي كان كحالِ كوبه، راحت تسأل:
- أَسْتمتعتَ بقهوتك؟
رد بفاهٍ يمتلأ بالكلام المعسول:
- ما دمتِ أنت من صنَعَتْها
احمرّت وجنتيها قليلا لترد:
- إلهي كم أنت بارع في تصويب الإطراءات
- لا شك في هذا بما أنني مصمم أزياء نسائية، يجب علي أن أمدح عارضاتي قبل كل جولة لهن على منصة العرض
حمل صينيته الفارغة ثم وضعها على طاولة الطلب ليرد شاكراً:
- أشكرك على ما قدمت لي مرة أخرى
- العفو
......عدت وعلى ثغري خط ابتسامة صغيرة تحولت لخط عبوس صغير بمجرد أن رأت عيناي الروزنامة المعلقة على الحائط.. على كلٍّ لا يهم.. أحببت الحديث مع المدعو بالسيد بيون بيكهيون، أو لنقل أنه ' بيون بيكهيون' بدون إرفاق كلمة ' سيد' كما طلب مني..
ازداد فضولي حول معرفة من يكون هو؛ لهذا بحثت عنه بين صفحات الانترنت..
الاسم، الطول، الوزن، المهنة، تاريخ الميلاد، حساباته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ومعلومة إضافية عنه: وهي أنه كان يغني في شركة ترفيهية سابقًا لكنه أنهى عقده وترك الفن منذ فترة. وهنا تنبهت لم يملك هذا الكم من المعجبين ولمَ تلك التعليقات من هذا النوع موجودة أسفل الصور التي ينشرها على حسابه
" إلهي كم هو جميل"، " أتمنى أن يكون زوجي يوماً"، " كم هي محظوظة من تلتقي به"
نبستُ بضحكة، أَ تكون تلك المحظوظة أنا؟. لنكمل..
" رُباه صوته يأسر قلبي"
مهلاً، تحققت من الأمر. إن صوته حقا يأسر القلوب.
لكن ما هو حدث عرض الأزياء الذي سيحضره؟. بضع نقرات على هاتفي أخبرتني عن الوقت، الموقع، وكل شيء يخص هذا الحدث. لم يكن حدث عرض الأزياء هذا مسابقة تنافسية بين المصممين أو جائزة، أو فائز في نهاية الحدث؛ بل كان حدثًا سنويا يُقام في باريس.
عندما اقترب الليل وحان وقت نومي، نظفت أسناني جيداً بعد أن تناولت طعامي، حللت عقدة شعري ووضعتها جانبا، لأدخل أسفل الغطاء الدافئ وأغطُّ في نوم هنيئ.
الرابعة فجراً..
استيقظت بفزع، أمسك رأسي بألم وأنا أإنُّ بصوت ضعيف أيقظ أركان منزلي الخالي. تركت سريري الدافئ راميةً الغطاء بعنف لجهةٍ أخرى، وبِبِضْعِ خطوات مختلة التوازن عشوائية الحركة كنت أمشي. وصلت إلى الدرج الذي أضع فيه الأدوية المسكنة. التقطت علبة تدحرجت إلى الجزء الحر من الدرج بمجرد سحبي إياه فالتقطته بقبضتي المرتعشة. جلست على الأرضية الملساء الباردة، فتحت علبة الدواء وسكبت حباتها في يدي، وبصراحة أكثر.. ثلاث أرباعها توزعت على الأرض وبضع حبات منها في يدي.
تناولت اثنتان بريق جافٍّ، ومعدة خاوية. لكن أرجو أن يتوقف هذا الصداع الذي يداهمني كل فترة وأخرى.. إلهي رب السماوات ارحمني من هذا الصداع الذي يجتاح خلايا دماغي، هل يجدر بي قول ' الصداع وحده؟'..
حدث كل هذا في غرفتي المظلمة، والتي اعتادت حدقتي ظلمتها فأصبحت تميز أثاثها آنذاك.
غسلت وجهي المرهق بعنف وبماء بارد، ومن ثم رحت أحاول تنظيم أنفاسي المضطربة وأنا أستمع إلى صوت المياه المتدفقة من الصنبور. أغلقته وأنا مغمضة عيناي، ثم فتحت عيناي أنظر إلى صورتي في انعكاس المرآة.
بشرة مبللة، عينان خضراوان أسفلهما هالات سوداء، وجه نحيل برزت عظمتي وجنتيه، أصبح وجهي مرهق كثيراً. من أنا؟.
أنا الآن أتذكر روزنامتي، أشعر أن بها لعنةً ما، تزيد في أيامها لتحرضني على الصمود، من ثم ترميني بسهامها السوداء التي تخترق عقلي وفكري، حتى أتعثر وأرتطم بقاعِ الهاوية، ولا أنوي الصعود مجددا. لأجل أن تخاجلني فكرة أن ليس كل طريق يرفع للقمة وعر فقط! بل هو مسمّم ولن يأخذ بيدي للنجاة.
-ترااا💜💜
تم نشر البارت الاول ولله الحمد👧🏻💗
اقرؤه واستمتعوا به ، اسعدوني بتعليقاتكم واعطو
هذه الرواية والبارت الكثير من الحب✨
اراكم لاحقاً 💜💜💜