2| الماضِ الدّفين

1.4K 132 29
                                    


ليلة سعيدةٌ تعيسة، تحمل لوناً رماديًا بين الأبيض، والأسود.
...
صباح جميل يبتدئ بعملي الذي أحبه كثيراً، أجل، أحب كوني أعمل في مقهى. رائحة القهوة تحسن مزاجي وتنسيني تماما ما أحمل على ظهري من هموم.
دخل المكان الشخص ذاته، الذي حضر بالأمس. السيد بيون بيكهيون. تفاجأت برؤيته وبالوقت عينه فرحت. ألقى التحية:
- مرحبا
- مرحباً بك بيون بيكهيون، كيف هو حالك اليوم؟
- بخير يا...
- صحيح لم أخبرك باسمي.. بيونيڤيل، تريد طلباً مثل الأمس؟
- قهوة فرنسية فقط
- في الحال
سألتُه بينما أحضّر القهوة الفرنسية:
- ماذا بشأن حدث عرض الأزياء، هل استعديت له؟
- بالطبع، لكن ... هل أنت متفرغة اليوم؟
- لماذا؟
- أريد أن أرى الأسواق هنا، وبما أنّني لا أعرف أحداً هنا تقريباً عـ...
- حسناً أنا موافقة
ابتسم بدوره عندما مددت له كوب القهوة ليضيف:
- إذا متى سنتقابل؟
- في المساء، حينها سأكون قد انتهيت من عملي
تمتمتُ في نفسي' أتمنى أن يكون كل شيء بخير'.
...
في المساء.. الثامنة ودقيقتان.
تمشي بهدوء بينما تنظر إلى البحيرة ومياهها التي تتحرك ببطئ شديد. وضعت كلتا يديها في جيب معطفها الناعم جدا، كي يقيهما قسوة الجو البارد. أخيراً لمحت السيد بيكهيون الذي لوح لها بدوره عن بعد. تقدمت نحوه وهو كذلك ليلقي التحية ماداً يده إليها؛ لغرض المصافحة.
نظرت ليده الممدودة قليلا ثم أعادت النظر إليه، ردت المصافحة بالمقابل، ثم أردف هو:
- مساء الخير أيتها الـ'سنيوريتّا' الجميلة
- مساء الخير، أشكر الرب أني لست عارضتك وإلا انتهى أمرك برؤية كتلة خجل محمرة تسير أعلى منصة العرض.
أصبح يقف بجانبها بينما يتحدث وقد اتخذا السير للأمام طريقاً لهما.
- لماذا، أ تخجلين من كلمة سينيوريتّا جميلة؟
- في واقع الأمر، أعلم أنّني جميلة، لكنّ جمالي هذا بدأ بالركض بعيداً عني تدريجياً.
حوّل نظره إليها:
- لماذا؟ ماذا تقصدين؟
- ألا ترى؟ الهالات السوداء، الوجه النحيل المرهق، عظمتا الوجنتان البارزتان
- لستِ بهذا السوء، لم تبالغين؟
ابتسامة صغيرة ظهرت بعد تنهيدة قصيرة:
- إلهي بماذا أتفوه الآن.. دعنا من هذا، إلى أين سنذهب الآن
تجاهل الأمر كما طلبت ثم همهم قليلاً:
- إلى الأسواق بالطبع، لكن بما أنها زيارتي الأولى لباريس فأنا لا أعرف الأسواق جيداً هنا، فأخبريني أنت ِعن الأفضل.
- لنقصد أولا متجر رافاييل للأزياء الليلية. إنه حقاً رائع. هيا بنا
سحبته من كم معطفه حتى أصبح يمشي بسرعة خلفها:
- مهلاً.. مهلاً يمكننا أن نذهب بالسيارة، لمَ أنتِ متحمسة هكذا؟
- هذا لأن المشي مفيد وأفضل من الذهاب بالسيارة بما أن المكان قريب، كما أنّني لم أزر هذا المتجر منذ فترة طويلة؛ لهذا أتطلع لما هو جديد فيه.
...
وصلا إلى المتجر صخريّ الواجهة زجاجيّ الأبواب، وذو اللوحة البيضاء كبيرة الحجم الموضوعة على بعد من الجزء العلوي من الباب، يتوسطها اسم المتجر بالخط الكبير واللون الأحمر بجانب شعار المتجر
دخلا وفوراً بدأ كل منهما بمعاينة القطع المعروضة حديثاً وهو ينصحها ويعطيها رأيه كمصمم أزياء.
- ألن تبتاعي شيئًا؟
التقط فستاناً باللون الأسود بفتحة صدر مثلثة. بدون أكمام. كان الفستانُ بسيطاً لكنه اعتقد أن الملابس بصفة عامة حتى إن كانت بسيطة ستناسبها.
- انظري إلى هذا، سيبدو جميلاً عليكِ
وضعه أمامها ثم أنزلته للأسفل بإحدى يديها:
- لا، لن أبتاع شيئاً
- لكن لماذا؟
- على الأرجح لن أرتديه
- ألن تخرجي برفقة صديقاتك أو ما شابه؟ أو حتى.. ألن تحضري عرض الأزياء الذي شاركت فيه؟ من الجيد أن تشتري مبكراً قبل أن تنفذ القطع الجيدة.
- بشأن هذا... سـ سوف أشتري لاحقاً.
أعاد الفستان مكانه بابتسامة:
- كما تشائين.
خرج كلاهما من المتجر:
- أعجبكَ التسوق؟
- أجل بالطبع لكن دعينا نأكل في أقرب مطعم من هنا، لأنني أتضور جوعاً الآن.
- أنا كذلك، هناك مطعم قريب من هنا، طعامه لذيذ جداً كما أنه يقدم الخبز الفرنسي مع حساء الذرة.
...
جلسَت على الكرسي المقابل له، مستمتعةً برائحة زهور الفانيلاّ المنتشرة بالمكان كله. دقائق أخرى حتى وصلت قائمة الطعام..
أمسك بقائمته:
- أ تعلمين؟ أظن بأنني سأطلب حساء الذرة والخبز الفرنسي الذي أخبرتني عنه و...
سكت فجأه عندما رآها تضيق عينيها بينما تركز نظرها إلى قائمة الطعام تارة، وتارة أخرى تغمضهما بتعب بملامح وجهٍ منقبضة..
- هل أنت بخير؟
- أ..أجل
- هل تؤلمك عيناكِ أو رأسك؟
- لا..أجل تقريباً
أضافت بينما تحمل حقيبتها وتقف:
- أحتاج لدورة المياه
هرولَت بسرعة ناحية دورة المياه ممسكةً بفمها الذي أصبح فجأة يمتلأ بالطعام وهي حتى لم ترتشف قطرة ماء أو تتناول كِسرة خبز.
انحنت قرب المرحاض المرتفع وسط دورة المياه التي ولجت إليها. أمسكت معدتها بألم وأخذت تفرغ ما يدور في جوفها، تحاول التوازن بوقفتها وعدم لمس طرف المرحاض الذي تشمئز منه.. لم تكن حتى تريد أن تفعلها في المرحاض بل أرادت أن تفعلها عند المغسلة.. لكن تخمينها كان صحيحاً أن ما خرج من معدتها لم يكن شيئاً بسيطاً تستطيع المغسلة الصغيرة تصريفه.
خرجت من دورة المياه. غسلت وجهها بالماء البارد بعنف مرة أخرى. رسمت خط ابتسامة باهتة وخرجت.
رأته يقف بعيداً بسنتيمترات عن دورة مياه النساء ينظر بقلق.
ابتسمت في وجهه عندما اقتربت وسألها:
- بونيڤيل هل أنت بخير؟
أماءت بالإيجاب:
- أجل، مجرد شعور بالغثيان فقط
تناولا الطعام اللذيذ ثم خرجا يمشيان جوار بعضهما البعض بهدوء.
- بيكهيون، لقد سمعت صوتك وأنت تغني في حسابك الشخصي
- رائع وهل أعجبك؟
- إنه يأسر القلوب كما قالت إحدى معجباتك، لم أكن أعلم أن لك كمًّا هائلاً من المعجبين
- أجل لدي الكثير منهن، لكنهن متطفلات حقاً في بعض الأحيان، هذا الواقع المرير
أشرت بيدها:
- انظر، هناك يبيعون الكعك المحلى إنه حقاً لذيذ
سحبته مرةً أخرى من معطفه وهذه المرة أمسك هو رأسه بيده الأخرى كي يحمي قبعته الدائرية من الطيران.
جلسا على كرسي خشبي طويل يراقبان المارون الذاهب منهم والقادم.
قطعت الصمت بسؤالها:
- بيكهيون، هل تمتلك إخوة؟
- أجل لدي أخ أكبر فقط
استرسل قبل أن يتناول قضمةً من الكعك المحلى خاصته:
- ماذا عنك؟
- أنا وحيدة والدَي
- استناداً على هذا أعتقد أنكِ المدللة
توقفت عندما كانت على وشك تناول قضمة من كعكها الخاص لترد:
- ليس كل فرد وحيد بعائلة ما يعني أنه مدلل، وليس كل أصغر شخص في العائلة يعني أنه مدلل
سأل بفضول إثر الغموض الذي اختبئ بين حروفها:
- لماذا تقولين هذا؟
- لأنني لا أؤمن بالمثالية الدائمة. هناك أناس يعتقدون أن الحياة بخير وأن الآباء والأمهات أجمعهم مثاليون، وأنه لا يوجد أب يكره ابنته أو أم تكره ابنتها وبلا بلا بلا... ومن هذا الكلام الفارغ. الناس كأعواد الثقاب إما أن يأتوك مستقيمين أو أن يأتوك معوجّي الجذع منذ البداية لا يمكن إعادة بناء جذعهم، بشكل أبلَغ، متجردين من الإنسانية. لا أقول أنه لا يمكن للشخص أن يتغير من الأسوأ إلى الأفضل لكن حالة كهذه نادرة الحصول.
- أعتقد أنك تتكلمين من وجهة نظرك الخاصة.
- وما الذي يجعلك تعتقد هذا؟
- ربما لأن كلامًا كهذا لا يقوله شخص لم يذق ولو قليلاً من الألم. لكن.. في كل ظلمة سوداء فيها بقعة أمل بيضاء.. على سبيل المثال، انظري إلى الليل عندما يشتد سواده ألا يُظهر من جوفه قمراً ينير سماءه؟ رغم ظلمة الليل الحالكة يبدو السماء جميلاً بسبب قمره ونجومه، وفوق ذلك تشرق شمس تنير الكون بمجرد أن يتلاشى الظلام وينزاح عن سماءه.. كأن السماء تخبرنا أنها بجوارنا في كل الحالات. في الظلام تنير عتمتنا بالقمر، وفي وضح النهار تنير فؤادنا المظلم بواسطة ضوءها المنتشر.. حتى وإن كانت الحياة قاسية لابد أن تكوني كمادة هلامية، تمتص الصدمات التي تهاجمها من أرجاء شتى. تتمايل قليلاً وتفقد شكلها الأصلي ثوانٍ، حتى تعود كما كانت كأن لم يلمِسها أحد
- تتحدث كأن كل الهموم صغيرة لا تعادل الذرات في حجمها.
- وهذا ما يجب علينا فعله بيونيڤيل.
- ليست كل المشكلات صغيرة بيكهيون، لا تتحدث بمثالية أنت الآخر، تقول ذلك كأن الحياة طويلة.
- هي كذلك، ستكون الحياة طويلة إن عشت كل يوم على حدىً واستمتعتِ بكل دقيقة تمُرّ.
- حتى وإن كانت قصيرة؟
...
قلت جملتي الأخيرة بصوت مهزوز ثم وضعت قطعة الكعك جانباً وهممت بالبكاء بينما أستُر وجهي الباكي بكلتا يداي الصغيرتين..
تعهدت بأن أكون قوية وأصمد، بأن أتظاهر أن كل شيء بخير، وأنسى.. بأن لا أختلط بأحد في أيامي هذه، ولكن كل تلك الوعود التي قطعتها على نفسي بتُّ أمام تحقيقها ضعيفةً بقوىً خائرة.
ظللت محتضنةً وجهي الصغير بيدي وأنا أشعر به ينظر إليّ في قلق حتى سأل:
- بونيڤيل لماذا تبكين؟
لم أتجرأ على الرد حتى ليضيف هو:
تفضلي هذا، أرجوكِ امسحِ دموعك الغالية بيونيفيل
قال لي ذلك وهو يمد لي قطعة منديل قماشية رأيتها حين أبعدت يداي عن وجهي، مسحت دموعي بها وكم كانت مشبعة برائحة خشب الصندل. لوهلة شعرت بالسعادة لوجود صدفة كهذه؛ فحسب ما أعرف أن رائحة خشب الصندل تساعد على نسيان الذكريات الحزينة.
- بيكهيون، أشكر مواساتك لي، لكن.. لندع هذا جانباً، أريد أن أنسى.
صنعت ابتسامةً ضعيفة:
- بيكهيون، هل ذهبت لمدينة الالعاب هنا من قبل؟
- على الرغم من أني لا أشعر بالاطمئنان تجاه هذا لكن كما تشائين، وإجابةً على سؤالك لم أذهب لِلَّتي هنا، كما أخبرتك أنها أول زيارة لي.
- حسنا إذا ًسنذهب لمدينة الألعاب ومن يصل متأخرا سيدفع قيمة التذاكر
كانت ستركض بعيداً لكن أمسك يدها:
- مهلاً هذا ظلم، أنا لا أعرف الوجهة حتى
- أعطني هاتفك
أخرجه من جيبه ثم ناولها إياه. بضع نقرات على شاشته مكنتها من تحديد الموقع. مدت له هاتفه
- الآن تعرف الوجهة. سننطلق عند واحد، اثنان، ثلاثة
فرت هاربة تركض بسرعة قصوى وذاك الأخير ينظر إلى هاتفه ثم إليها:
- مهلاً انتظريني
وضع هاتفه في جيب معطفه ثم همّ بالركض هو الآخر.. بعد فترة زمنية معينة أصبحا يركضان جوار بعضهما البعض حتى تحدث بنفَس متقطع:
- هـ.. هذا ظلم.. أنـ أنك تمشين بـ بدون خريطة
توقفت هي فجأة تمسك بركبتيها بعد أن انحنى جسدها قليلا ثم أخذت تلهث.
سرعان ما استوعب ذلك عندما اختفت عن ناظريه بعد أن تقدم عنها ببضع خطوات. نظر إليها ثم اقترب ناحيتها:
- بيوني، أ أنت بخير؟
رفعت عينيها ثم نظرت إليه بمكر فقالت:
- أعتقد أنك ستكون الخاسر
ركضت مرة أخرى مندفعة للأمام بقوة وهو على الفور ركض خلفها:
- مهلا أنتِ غشاشة
...
داخل مدينة الالعاب..
ملأ صراخهما المكان المفتوح وأيديهما تحلق عالياً في لعبة الأفعوانية السريعة جداً.. وبعد نزولهما من اللعبة الرابعة التي جرباها عادا للسير مجددا:
- بيوني، هل ستحضرين عرض الأزياء؟
- أجل بالطبع، لكن أخبرني المزيد عنه، أو عنك أنت كمصمم كيف كانت بداياتك؟
استلما زمام الحديث حتى قاربت الساعة الحادية عشرة والنصف، تحدث بيكهيون:
- إن الوقت تأخر أ ليس كذلك؟
- أجل كثيراً، يجب أن أعود للمنزل حتى آخذ قسطا كافياً من الراحة، لدي عمل في الغد.
- لنستقل سيارة أجرة.
خرجَت من سيارة الأجرة ثم لوّحَت من الخارج مودعة:
- وداعاً بيكهيون
لوّح هو الآخر مودعاً:
- وداعاً، ليلة سعيدة
-

تداااا🍃✨
مرحبًا جميعاً🖤👧🏻, اولا احب اشكر كل شخص تفاعل بتعليق على البارت الاول
بالفعل اشعر بسعاده عارمه لمن انزل بارت ولمن اشوف تعليق🤗
بانتظار اراءكم ،مشاعركم حيال الروايه؟
See you soon🏃🏻‍♀️💜💜💜💜🖤

الأيّام المتَبقية حيث تعيش القصص. اكتشف الآن