3| الجرّة المكسورة

1K 117 18
                                    


لا يمكنها أن تسد ثغرة تعبها المفاجئ، الذي يحرجها ويقلقه هو الآخر. فتلك باتت كجرّة مكسورة تسرّب الماء. ومن المستحيل سدها، بسهولة..
...
صباح اليوم التالي..
مقهى ألبيسيرِن CAFFE' AL BICERIN
رأى تلك الابتسامة بعد أن دخل للمقهى واضعاً يداه في جيب معطفه، لم يستطع رد الابتسامة بسبب الوشاح الصوفي الذي كان يغطي نصف وجهه..
اقترب ناحية وقوفها خلف طاولة الطلب ثم أزاح الوشاح عن وجهه تدريجياً..تحدث هو:
- مرحباً
ردت هي:
- مرحباً، قهوة فرنسية؟
- أجل، طلبًا سفريّ من فضلك
- في الحال
أضافت مستفسرة:
- لكن لماذا؟ هل أنت َمستعجل؟
- في الواقع أجل، أريد أن أتأكد من مجموعة تصاميمي فعرض الأزياء قد اقترب وعليّ أن أنتهي باكراً، لكن هل اشتريتِ فستانا لترتديه؟
- لا
- لم، ألن تأتي؟
- بلى سأفعل لكنني لا أريد الشراء الآن
اتّكأ على الطاولة في فضول سماع إجابة لسؤاله:
- ما رأيك أن أصمم لك فستاناً؟
نظرَتْ إليه بشيء من التعجب:
- ماذا؟ لا..لا أريد أن أُتعبك، ثم إنك مشغول بشأن عرض الأزياء الذي ستشارك فيه، غير أن تصاميمك باهظة الثمـ...
- اعتبريها هدية اذاً، ثم إنّني أنظم وقتي جيداً، لن أعتكف على تصاميمي لطيلة اليوم
- لكن بيكهيون سيكون هذا مكلفاً و...
- بيونيڤيل، اقبليها مني، اعتبريها هدية شكر لأنك رافقتي إلى أماكن ممتعة، وقضيت يوماً رائعا بفضلك في الأمس
- سأدفع ثمنه
- هدية
- لا بل سأدفع
وضعت كوب القهوة الفرنسية أعلى الطاولة لتردف:
- الحساب عشـ...
أزاح الكوب جانباً ثم أمسك بيدها:
- لنتبارى ومن يربح سيقرر أ سيكون الفستان هدية أم مدفوع الثمن
- موافقة سنتبارى بلعبة حجر، ورق، مقص
رفع كلاهما يده في الهواء ليتحدث هو:
- حجر، ورق، مقص
بعد الجولة الأولى كان بيكهيون الحجر وبيونيڤيل الورقة
أردف بحماس:
- لقد فزت
- مهلاً أطالب بثلاث جولات
- حسناً إذاً، الجولة الثانية، حجر، ورق، مقص
في هذه الجولة كان بيكهيون الحجر وبيونيڤيل المقص
- فزت مرة أخرى
- هذا غش، لماذا تأخذ دائماً دور الحجر؟
- لا قوانين كهذه في اللعبة
- تبقت جولة أخيرة
- حجر، ورق، مقص
في هذه الجولة الأخيرة كان بيكهيون المقص وبيونيڤيل الورقة
تحدث بابتسامة واسعة:
- الآن لقد ربحت، وقراري هو...
نظرت إليه بحماس معتقدة أنه سيقول ما تريد، لهذا سبقته وقالت:
- مدفوع الثمن
- لا، سيكون هدية
- ااه، حسناً لا مفر الآن، أنا موافقة
دفع النقود ثم مدت له قهوته:
- استمتع بها
- شكرا لك، سأتصل بك في المساء، كي أناقشك بشأن الفستان
- أجل بالطبع
- وداعاً
استدار نحو الجهة المعاكسة ليهم بالخروج متقدما بضع خطوات للأمام..
صوت ارتطام الزجاج بالأرض وتكسره إلى قطع أصغر هو ما جعله يقف مسمرًّا في مكانه قبل أن يلتفت على الفور إلى الجهة السابقة!
اختفاء جسد بيونيڤيل الذي كان واقفاً خلف طاولة الحساب كان سبباً كفيلاً بجعله يركض إلى تلك الجهة متجاهلاً علبة القهوة التي وضعها جانبًا
رأى جثتها مزجاةً على الارض هامدة من غير حراك، وكأس زجاجي مكسر لأجزاء صغيرة توزّع بجانبها.
هرع إليها مسرعاً..
- بيونيڤيل، بيونيڤيل... أ أنتِ بخير؟ أجيبيني؟
نظر لأعلى بعشوائية، وبكل الاتجاهات
- ألا يوجد أيّ أحد هنا؟ تبًّا!
حملها بين يديه ليأخذها لأقرب مركز صحي، حتى استقبلنه الممرضات فور أن دخل.
...
رمشت عدة مرات، وبمجرد أن استدركت المكان الذي هي فيه جلست بفزع.. في هذه الأثناء دخل بيكهيون. اقترب من سريرها الذي كانت تجلس عليه، سألها بنظرات قلقه:
- بيونيڤيل، كيف حالك ِ الآن، أ تشعرين بتحسن؟
- ما الذي حدث بيكهيون؟
- لقد فقدتِ الوعي
- حـ..حسناً
صنعت ابتسامة صغيرة وهي تطلب:
- بيكهيون، أريد بعضا من الماء هل يمكنك أن تحضره لي؟
- حسنا، لن أتأخر
ذهب ليحضر لها الماء وبعد مدة زمنية قصيرة عاد وبيده الغَرَض، لكنه عندما دخل لم يجدها، فقط غطاء الفراش فوضوي الشكل كان يعتلي مكانها..
خاف كثيرا وأول سؤال خطر على ذهنه وكان يهمس به:
- إلى أين ذهبَت؟
..
كانت تمشي بخطوات متسارعة لم تصل إلى مرحلة الركض..
كانت تمشي وتتلفت يمنةً ويسرة بينما تنظر للخلف ثم تعيد نظرها للأمام إلى أن خرجت من المشفى بأمان..
ولجت إلى حجرة صغيرة للاتصال، أدخلت بضع سنتات كانت في جيبها فاتصلت برقمه ثم وضعت سماعة الهاتف قرب أذنها، حتى رد بسرعة:
- أجل مَن معي؟
- هذه أنا بيكهيون، بيونيڤيل
اتسعت عيناه بتفاجؤ وهو يسأل:
- بيونيڤيل أين أنتِ؟ أ هربتِ من المشفى؟
- أجل
- أريد أن أراكِ في الحال
- سأنتظرك عند حجرة الاتصال القريبة من المشفى
أغلَقَت الخط، وعندما همت بالخروج، ارتكز جسدها على ركن من أركان حجرة الاتصال بثقل لتُشَل حركتها فجأة!.. مرت مدة وهي تحاول النهوض لكن لم تستطع؛ وذلك بسبب الألم الذي داهم جسدها وشل حركتها، وعاكس اتجاه رغبتها بالنهوض. حاولت التمسك بأركان حجرة الاتصال بصعوبة وهي تسند جسدها عليه بواسطة يديها الصغيرتين، بينما تحاول التركيز بالنظر للشخص الذي يقف خارجاً يتلفت صوب اتجاهات مختلفة وكأنه يبحث عن شيء ما، لكن رؤيتها الضبابية المتشتتة جداً، حجبت عن عينيها الرؤية الواضحة.
شد وجودها داخل حجرة الاتصال انتباه الشخص الواقف بالخارج مما جعله يتعرف على هيئتها بسرعة كبيرة.
فتح باب حجرة الاتصال بعد أن وصل إليها بسرعة وجسدها في هذه اللحظة استند عليه بضعف، وهو ممسك بكتفيها.
- بيونيڤيل أنت حقاً تَعِبَة، هذا شيء لا يمكنُ السكوت عنه
تحدثت بصوت ضعيف وأنفاس مترددة:
- بيكهيون أرجوك.. لا تُعِدْني إلى المشفى مرةً أخرى
رد بنبرة توبيخ:
- إذاً تريدينني أن أترككِ هكذا؟
ابتعدت عنه قليلا وهي تحاول الوقوف وحدها ثم تحدثت بالصوت الضعيف نفسه:
- لا تقلق بشأني، الأمر بسيط، هذا كله بسبب سوء التغذية، سآكل جيداً حينها سأكون بخير، لا تكبر الموضوع.
تنهد بقلة حيله ثم تحدث بصوت هادئ:
- حسنا، لكن على الأقل لا تذهبِ للعمل اليوم، اتفقنا؟
أماءت بالإيجاب بابتسامة باهتة.. تمتلك قدرة عجيبة على الابتسام رغم تعبها الواضح ومع هذا لم تسأم من ذلك.
لا يمكنها أن تسد ثغرة تعبها المفاجئ، الذي يحرجها ويقلقه هو الآخر. فتلك باتت كجرّة مكسورة تسرّب الماء. ومن المستحيل سدها، بسهولة.. وربما سيظل هذا أمراً مستحيلاً. رغم كرهها له.
رد هو عليها:
- هيا إلى سيارتي سؤصلك بنفسي
...
- بيونيڤيل إعتنِ بنفسك وتناولي الطعام جيداً حسناً؟
أجابت وهي تقف خلف الباب بينما يقف هو خارجه:
- حسنا، سأفعل
- وداعاً
...
عندما حلّ المساء..
اتصل بها فأجابت بسرعة كونها قريبة من هاتفها:
- مرحبا بيكهيون
- مرحباً، هل تحسنتِ؟
- أجل أفضل بكثير، أنا متفرغة الآن هل يمكننا أن نناقش أمر الفستان؟
- أجل بالطبع، لكن يجب أن نتقابل
- حسنا إذاً في منزلي
...
حين زار بيكهيون بيونيفيل في منزلها، جلسا يتحدثان عن أمورٍ عدّة بينما يحتسيان مشروبًا برفقة بعض المقبلات الحُلوة، ويتصفحان مجلات الموضة التي أحضرها هو، اتفقا على الألوان، التصميم وما إلى ذلك؛ فقد كان بيكهيون يريد صنع فستان من تصميمه ولكن على ذوق بونيفيل الخاص واللون المفضل بالنسبة لها، والتصميم المفضل.
صرفت نظرها عنه مرتشفةً القليل من مشروبها، وآنذاك باغتها بيكهيون بسؤاله
- بيوني أريد أن أسألك سؤالاً غريبًا ومفاجئًا بعض الشي
أنهت جرعتها على حين غرة بعد أن باغتتها ضحكة زامنت مباغتة بيكهيون بسؤاله
-بيوني؟
تساءل هو:
-آه ترى هل تخطيت حدودي حين تحدثت بغير رسمية؟
مسحت فمها بمنديل ورقيّ كانت علبته تتوسط الطاولة الزجاجية
-بالطبع لا، أكمل. ليس وكأنها أول مرة تقولها
-أخبريني بيوني، هل.. هل أنتِ متزوجة؟
تفاجأت قليلاً:
- ماذا؟ بالطبع لا، إضافةً أنا أسكن وحدي
تنهد وهو يرد:
-هذا مطمئن كثيراً
-ماذا؟
رد بابتسامة مصطنعة:
- لا شيء
- حسنا إذاً، سأذهب لأحضر المزيد من الشوكولا الساخنة والمقبلات.
ذهبَت إلى المطبخ وهو ظل يحدق بأرجاء المكان، حتى لفتت انتباهه تلك الروزنامة المثبّتَتِة على الحائط.. أشبع فضوله بوقوفه أمام تلك الروزنامة ليقرأ تلك الملاحظة المكتوبة باللون الأزرق، خلاف اللون الأحمر المستعمل بوضع علاماتX)) على الأيام الفائتة..
تلك الملاحظة كانت في يوم يصادف اليوم الذي سيشارك فيه بعرض تصاميمه، السادس والعشرون من نيسان عام ألفَان وأربعة عشر ميلادي. قرأ الملاحظة بصوت منخفض:
- آخر أجمل حدث فـ...
قاطعت قراءته للملاحظة عندما وقفت أمامه مباشرةً وهي تفرد كلتا ذراعيها كي تغطي بهما الروزنامة التي خلفها كأنها تحمي شيئًا خلفها، وهذا ما كانت تحاول فعله.
- ماذا تفعل هنا؟
- أريد رؤية هذا
أشار بسبابته إلى الروزنامة وهو يتحدث بينما يميل بجسده للجانبين محاولا اختلاس النظر. لكن تلك المحاولة بائت بالفشل بسبب بيوني التي تسد كل اتجاه يميل إليه. دفعته للخلف:
- هيا اتبعني إلى المطبخ وساعدني بدل أن تتطفل علي
- حسنا حسنا، أعتذر لهذا، لكن أساعدك في ماذا؟
فور أن دخلا إلى المطبخ، اتجهت إلى خزانة الأواني لتأخذ إبريقاً ثم سارت إلى الثلاجة.
- أخْرِج الأطباق من الخزانة وضع فيها قطع البسكويت.
- لكن أين هي؟
نظَرَت إليه بينما تسكب الحليب البارد في الإبريق
- فلتبحث عنه
- حسنا لكنني لن أغلق الخَزائن بعد أن أبحث عنها
أردَفَت بتحدي:
- بل ستفعل
وضع الأطباق أعلى الطاولة بعد أن بحث عنها ثم قام بِرَصّ البسكويت عليها بشكل جميل، حمل الأطباق إلى غرفة الجلوس، وضع الأطباق على طاولة أخرى قصيرة قرب الأرائك؛ ليرتب الفوضى التي أحدثاها: أوراق مجلات، صور تصاميم، أقلام، وما إلى ذلك..
وضع تلك الأوراق والصور بعضها فوق بعض جانباً، وعندما رفع بصره للأعلى قليلا، لاحظ اللوحة الفنية متوسطة الحجم، المثبتتة على الحائط.
حدّث نفسه بصوت منخفض وهو يبتسم للَّوحة:
- لوحة جميلة، لكن لم هي مائلة؟
عدّل ميلان اللوحة بسبابته، فسقط ظرف أبيض من أسفله. انحنى قليلا ليلتقط الظرف بين يديه ويقرأ ما هو مكتوب عليه من الخارج.
" إلى السيد بيون بيكهيون".
نظر إلى زاوية المطبخ بعد أن خرج صوت بيوني وهي تقول:
- الشوكولا الساخنة جاهزة
أخفى الظرف في جيب بنطاله بسرعة ليتظاهر وكأن شيئا لم يحصل.
ردّ بابتسامة:
- لقد رتّبت الفوضى قليلاً بما أننا انتهينا من الفستان
تحدّثَت وهي تسير نحو المائدة الزجاجية القابعة أمام التلفاز المثبت بالحائط.
- أشكرك على هذا. البرد شديد اليوم فلتقترب لتناول المشروب الساخن حتى تشعر بالدفء.
جلس على الأريكة بجانبها، مسج أنامله بتوتر ثم تحدث بتردد:
- بيونيفيل، أريد أن أسألك سؤالا يدور داخل ذهني منذ مدة.
حوّلَتْ نظرها إليه:
- أجل ما هو؟
أردف هو بصوت عميق جدا يحتوي اللطف الصادق بين طياته:
- بيوني، أنتِ لستِ بخير، لماذا تعبت اليوم؟ ليس اليوم فقط، حتى عندما خرجنا تلك الليلة كنت تَعِبَة، لكن تحاولين التظاهر أنك ِ بخير.
نظرت إلى عينيه مباشرة، إلى تفاصيل عينيه العميقة، إلى ملامحه الطيّبة التي تنتظر ردًّا يشفي علامة الاستفهام التي ارتسمت بجانب ثغره، وكيف لمشاعرها ألا تتحرك، وقلبها ألا ينبض بعنف من الخوف، القلق، والحزن. وهو يهز فؤادها بنظراته العميقة، كعمق البحر الميت ومساحة القطب الجنوبي والشمالي، وسواحل بحار العالم كافة، هذا الشعور، هي الوحيدة التي تستطيع الشعور به، هي وفقط.
عيناه لم تكن بحجم الأرض طبعاً، لكن نظراته الصادقة، العميقة، والمهتمّة، كانت تفوق عِظمَها حجماً.
أضاف عندما كان السكوت جوابها:
- أنا اعتقدت لوهلة أنك حاملة؛ لهذا سألتكِ إن كنت متزوجة أم لا، صحيح كان لي غايةٌ أخرى في السؤال، لكن اتضح ليَ العكس، ومع هذا ظل لغز تعبك المفاجئ أحجية لم أستطع حلّها!.
أرادت أن تُفصح عما بداخلها، لكن اكتفت بقولها:
- ستعرف قريباً
...
-

الأيّام المتَبقية حيث تعيش القصص. اكتشف الآن