4| الظرف السرّيّ

1K 115 25
                                    

..الظرف السرّي..
ذلك الظرف، كان السبب في كسر الجرّة التي تُخَبِّئُ الحقيقة بداخلها

بعد مرور أربعة أيام..
تتصل به ولا يرد، لم يأت للمقهى يطلب القهوة كعادته، زارت مكان عمله وأخبروها أنه لم يأتِ منذ أيام.. خَشِيَت أنه قد أُصيبَ بمكروه، وتمنّت أن يكون بخير.. اقترحت على نفسها حلاًّ وحيداً، وربما هو آخر مفتاح في علبة فارغة قد توصلها إليه.. ألا وهي أن تزوره في منزله.
بدا الأمر كما لو أنه يعلم بما كانت تفكر به حين أخبر صوت هاتفها عن اتصال وارد منه. ومن الجيد أن إصبعها لم يخترق شاشة الهاتف وصولاً إليه، عند لمسها مفتاح الرد على المكالمة بقوة
-بيكهيون هل أنتَ بخير؟
سألته بصوت متلهف وهو رد بجملة تجاهلت إجابة ما سألت عنه، جاعلة إياه في طيّات معاني تلك الجملة
-هل يمكن لنا أن نتقابل لبرهة بونيفيل؟
هذا ما أرادته هي، تفسيراً مفصلاً عما حدث له في الأيام السالِفة، ومن الأفضل أن يكون هذا وجهاً لوجه.
ارتدت ملابسها بسرعة، فاقدة التفكير فيمَ تفعله. إنها ترتدي الملابس كل يوم وهذا ليس شيئاً تحتاج إلى التركيز فيه، لكنها فعلت عندما أدركت أنها أغلقت أزرار قميصها بشكل مغاير للشكل الصحيح. الزر الأول مع الثالث والرابع مع الخامس. حلت أزرار القميص لتعيد ارتداءه بشكل صحيح هذه المرة تاركة آخر زرٍّ منه منسياً. عقدت شعرها للخلف، ارتدت معطفا ثقيلا ثم غادرت.
ولجت إلى مقهىً كبير، بدا فاخراً جداً، يقدم المشروبات الساخنة والشاي بأنواعه النادرة.
استقبلها النادل فور رؤيته لها
-آنسة بونيفيل؟
-أجل
أشار النادل بيده باحترام
-سيد بيكهيون ينتظرك، من هنا سيدتي
المقهى كان خالياً تماماً، ومع ذلك تبوأ بيكهيون مكاناً مغلقا ككل، وشفاف من جهة النافذة الكبيرة التي أخذت حيز الحائط بأكمله، والذي كان يجلس بجانبه هو وينظر إلى باريس بإذعان من مكان المقهى المرتفع
-بيكهيون
سرقت انتباهه متعمدة، صارفة انتباهه عن باريس وجمالها. أدار رأسه إلى مصدر الصوت بابتسامة ظهرت على محياه قبل أن يفعل؛ فقد ميز الصوت دون النظر إلى صاحبه، أو بشكل أصح "صاحبته".
جلست بونيفيل على الكرسي المفرد الواقع أمامه، تنظر إليه، إلى ابتسامته المصفرة كأوراق الشجر في فصل الخريف، والتي لم تعهد عينيها رؤية ابتسامته بهذا الشكل سابقاً، وتمنت ألا تراها مستقبلا
باتت تتأمل وجهه الذابل كزهرة توليب انتهى عمرها، ودخلت في مرحلة الكُمُون. إلى أنفه المحمر وعيناه اللتان هما من نفس الحال. سألته بقلق بالغ:
-بيكهيون هل أنت بخير؟
استرسلت بتلعثم مصححة السؤال
-هــ..هل كنت بخير؟
لم يفقد وجهَهُ المبتسم حاله، ولم يجب على سؤالها. الصمت بعد سؤالها كان لسانهُ المتحدث.
سحب إحدى يديها اللتان استقرتا على طرف الطاولة المنتظمة، وبدأ بإغلاق زر كمها المفتوح برقه وهدوء
-بونيفيل أنا توقعت أنك شخص قوي جداً لكن لِمَ تتحملين أمراً ثقيلاً كهذا؟
أنهى إغلاق الزر ثم طوى الكم للداخل فأصبح مثالياً. تناول يدها الأخرى ليغلق زرها كما فعل للكم الآخر. ويهمهم هو هذه المرة، باحثاً عن إجابة لسؤاله
-همم بونيفيل؟
نبرة صوته كانت معاتبه، خائفة، حزينة، قلقة أكثر من كونها متسائلة. وبونيفيل فهمت ما يرمي إليه، لكنها جهلت تماما الطريق لتمثيل أنها لا تعلم أو حتى تجربة ادعاء ذلك
علمت أن ذلك الظرف السري قد كشف الحقيقة المختبئة؛ لهذا ظلّت صامتة بشفاه مدبّسة.
هذه المرة لم يغلق زر كمها هذا ويطويه، بل ظل يمسكه بقوة بعد أن أغلقه، كمن يريد التشبث بشيء وعدم الانفكاك عنه. خُيِّلَ له أن بونيفيل ماء. مهما تمسك بها انسلت من بين ثُلُمَاتِ قبضته. أثناء هذا التفكير كله اتكأ رأسه على الطاولة وهو لازال يمسك بأكمام بونيفيل بشدة. وضع مرفقه الشاغر على الطاولة صانعاً بمرفقه حجرة صغيرة لرأسه وبدا مرفقه كمحيط مضلع له. أدركت بونيفيل أنه عَلِمَ بكل شيء حين شعرت أنه يبكي ويتمسك بِكُمِّ قميصها بقوة حتى ضيّقَهُ على معصمها
سألها بصوته المكتوم جداً والمحشور بسبب الطاولة والمرفق
-أليس هذا ظلما؟ أليست أنانية أن تحتفظي بهذا لنفسك؟ أليس ثقيلاً على كاهلك بونيفيل؟
ظل يوبخها من ذلك العيار الثقيل المليء بالعتاب المستمر، وكان كمن لن ينتهي، وهي لم تنطق بحرف. دموعها تقف عند عتبة رموشها، مترددة بين أخذ خطوة للأمام والنزول أو التراجع خطوة للخلف والتماسك قليلا
تركته يبكي، يوبخ بصوت منخفض ومنكسر ويشد كمها الذي أصبح طرفه منكمشاً بفعلته لا فعل آلة الغسيل.
سكت بكاءه وهدأ قليلا، وزخات دموعه توقفت. مسح دموعه بكم معطفه ثم جلس مستقيم الظهر وبكل شجاعة نظر إليها، وبلا خجل من مظهر عينيه المحمرتين، ولا يزال طرف كمها في يده. استأنف حديثه بصوت منخفض كاسر لفؤادها، عازفٍ على أوتاره
-على الأقل أخبريني لم تريدين الفرار؟
اندفعت دمعتها من حافة سور عينيها كصخرة صغيرة كانت على جرف الهاوية فهفتها رياح جعلتها تهوي نزولا، واقعة فوق حضنها، وتزامن هذا مع انحناء رقبتها للأسفل هروبا من رؤية بيكهيون، الذي لازال متسائلا
-بيكهيون أنا لم أعد أثق بأحد أبدا، أنا... أصبحت أكره التحدث مع أي أحد حول ما يضايقني. أنا لم أجد شخصا مناسبا يقف معي في المشاكل البسيطة، ولأنني لم أجد أحدا هنا، احتفظت بأسراري لنفسي دوما سواءاً كانت بسيطة أو عظيمة
سألها بحذر
-ماذا عن والديك؟ ألم يعلمو بالأمر؟
ضحكت بسخرية على حالها
-أ تتحدث عن والدي الذي لم أره منذ سنين طويلة؟ أم والدتي التي تخلت عني هي الأخرى وعاشت مع حبيبها؟
تمنى بيكهيون لو أنه لم يسأل، وتردد للحظة إن كان من حقه أن يعبئ المكان الفارغ من دائرة أسئلته. خشي أن يتعدى الأمر حدوده ويصبح متطفلا على حياتها، ولا يمتلك أدنى صلاحية لذلك. لم يكن واثقا ولم يمتلك أدنى فكرة عما تعتقده بونيفيل بشأنه، أو حتى ما هو بالنسبة لها؛ لهذا فضل الصمت قليلا
تبادلت أدوارهم هذه المرة، عندما وضعت بونيفيل مرفقها على الطاولة وخبأت وجهها كما فعل بيكهيون قبل قليل، وبصوت مكتوم كخاصة بيكهيون عندما فعل ذلك أخبرته
-اسأل كما تشاء على كل حال سأموت بعد مدة بسيطة
تنبّه لما قالته، وأراد تصحيح فكرتها على الفور حتى لا تغزو عقلها وتدمره
-بونيفيل لا تقولي هذا، أناس كثر استطاعوا تخطي هذا المرض وتلقوا العلاج
بنظرة حانيه متسعة الأطراف أخبرها، كطفل ينظر إلى أمه محاولاً إقناعها بأنّه لن يتأذى عند اللعب بدرّاجته. لا يأبه بيكهيون لكونها لا تنظر إليه الآن. لكنه متأكد أنها تسمع كل كلمة يقولها.
أصبح الألم يتناوب بين عقلها وقلبها، أحدهما حسيٌّ والأخر معنوي، وبكائها الصامت زاد تأجج الحرقة بداخلها. دنا بوجهه للأمام وهو يهمس بخفوت:
-بونيفيل لا بأس يمكنك أن تثقي بي حسنا؟ أنا سأقف معك في كل أوقاتك. ربما أكون الشخص الوحيد الذي أتى متأخراً لكن ثقي بي. أنا لن أتركك
أخذت بونيفيل نفساً عميقاً، جلست ثم مسحت وجهها بكفيها قبل أن تستره بباطن يديها. أخذت نفساً آخر ثم تحدثت إليه بعد أن أبعدت يديها عن وجهها
-لنذهب الآن، يجب ترتاح قليلا، أيضا يجب أن تعود للعمل، ليس حلاًّ أن تختبئ في مكان ما حزناً علي. أيضاً لتأتِ إلى المقهى كي تأخذ قهوتك في الصباح الباكر، لا بأس معي أن أتظاهر أن كل شيء بخير، لقد اعتدت على ذلك.
...
توقفت سيارة بونيفيل أمام منزل بيكهيون وقبل أن يحركا ساكناً اقترح بيكهيون
-لنشرب قهوة ساخنة قبل أن أعود إلى منزلي
أماءت بونيفيل بالموافقة
-فكرة رائعة
ترجلاَ من السيارة وسارا على السلم القصير المؤدي إلى الباب، بعد تخطي النباتات الموضوعة عن يمين ويسار الممر ما قبل السلم القصير
-أ تعلمين! لقد اشتريت قهوة فرنسية منذ مدة ولم أقم بتحضيرها
-اليوم ستتعلم كيفية صنعها مني
قاما بتحضير القهوة وخَلَقَ هذا جوًّا لطيفاً في المطبخ، بالإضافة إلى رائحة القهوة التي عمت بالأرجاء، إلى جانب رائحة المطر التي تسللت للداخل عبر نافذة المطبخ الصغيرة المطلة على الحديقة في الجوار، حين بدأت قطرات المطر بالهطول.
نظرا بلهفة إلى قطرات المطر وهي تتساقط بتناغم إبداعي مستمتعان قليلا، ولأجل تلك الأجواء الخلابة قرّراَ الجلوس في الحديقة أسفل المظلة.
طافت أنامل بونيفيل على حوافِّ كوب قهوتها
-ماذا ستفعل الآن؟
ارتشف بيكهيون القليل من قهوته
-سأنام
نظرت له متعجبة
-هل يمكنك أن تنام بعد شربك للقهوة؟
-أنا لا أتأثر بالمنبهات، حتى إن شربت قهوة وتناولت السكريات أستطيع النوم بسهولة. أستطيع القول أن المنبهات في بعض الأحيان تكون منوماً بالنسبة لي
قهقهت بونيفيل على ما سمعت
-سبق وأن علمت بأمر كهذا لكنني لا زلت أراه غريبا، أنا أستجيب للمنبهات بصورة إيجابية جداً فالنوم بعد شرب منبه مستحيل بالنسبة لي
جلست بونيفيل على الأريكة الطرية في غرفة الجلوس، فسألته عندما تمدد على الأريكة المقابلة
-هل ستنام الآن؟
-أجل
وقفت بونيفيل
-سأحضر لك وسادة ولحافا، الجو بارد
-بونيفيل أستطيع فعل هذا بنفسي
قاطع صوته فعلتها وهي تضع له الوسادة وتغطيه باللحاف الدافئ، ولم تأبه لقوله
-أنتَ تحتاج للاهتمام
-أنتِ من تحتاجين ذلك
انتهت من ذلك ثم أخذت حقيبتها
-حسنا إذاً وداعاً
-مهلاً
أمسك بمعطفها قبل أن تتحرك مبتعدة
-بونيفيل على الأقل لا تسافري حسنا؟
طلبها بأعين مترجية وهي لم تستطع الرفض
-حسنا، لكن نم جيداً، وداعا
...
-

مرحبًا جميعًا لقد عدت💜👧🏻
واخيرًا البارت الرابع، ارجع واقول شكرًا جزيلاً على تفاعلكم
الجميل هذا شكرا للحب واللطف الذي
تقومون بإعطاءه لهذه الرواية 🌸
انتم الافضل ✨
صحيح حاليًا افكر اسميكم أستيرِياز☄️
بمعنى نجوم باليونانية لكنني اضفت (ز) في النهاية.
ما رأيكم؟🌸
اتمنى ان تكونوا استمتعتم بالقراءة، بانتظار تعليقاتكم
اللطيفة أستيرِياز☄️.

الأيّام المتَبقية حيث تعيش القصص. اكتشف الآن