الفصّل الخامس || Chapter Five

49 19 6
                                    


تمعّنت لورينا بالبواخر العابرة عبر سياج نافذتها، الصّباح الباكرُ المُضجر، ودّعت كل ما عرفته قبل أن تُسافر، لكنّها ما تمكّنت توديع تيموثي، ما تمكّن قلبها الصّريع.

كانت قد وعدت إيليو بفرصة العيش الطّيب حين تعود، و استسلمت لقرار إلغائها كل ما يودي أوصالها إلى تيموثي.
حقيقة الأمر، انشغال تيموثي المُبالغ بالانترنت جعلها تضمرُ أفكاراً جحيميةً كالخيانة في وجدانها، فكلّما دنت إليه تحاولُ التّسلل، أخفق خطتها و غضب بتعجرف و أنانية.

فقررت إخلاء الأجواء له، و أحسّت بعدم مسؤوليته تجاه زواجهم المُستجد، حتّى أنه لم يلمس إنشاً من جسدها، ولم يُبادر بغفوةٍإلى جانبها، فطفح كيلها و فاجأته آنذاك بقرارها النهائي بتركه موضّبةً أغراضها للرحيل.

مازال حبّها السّم الأكبر لحياتها، و الشّيطان الأعظمُ في هلاوسها، فتشعر بأنها خاضعة لهذا الحُب، مهما تهرّبت.

مشت تفتحُ حاسوبها المحمول صانعةً اتصالاً مباشراً بالانترنت، مقررةً حياله إنشاء حساب خاص لها، كي تُلاحق تيموثي، و ترضي بعضاً من اشتياقها إليه.

--

اليوم التالي / الثامنة مساءً.

كبتت ساشا شعورها باليأس بعد فشلها في تأمين مغنٍ واحد فقط لدعم هؤلاء المساكين، أشارت إلى العازف بالتّمهل و أداء ما بيده لإسعادهم، تجمّع الجّميع في حيّز واحد، لغايةٍ واحدة، كانوا يتشبثون بحبل العذاب ذاته، الذي ينتشل روحهم من أجسادهم ببطء مُميت، فعسى قدرهم محسومٌ بملاقاة رحابة الحتف كخلاصٍ من الاختناق على قيد الحياة.

تجاهلت ما يتوّلد في مقلتيها من العبرات بتذكير نفسها عن الهدف الحقيقيّ من هذه الأمسية، تحت عنوان " أقوى من الانهزام"

و إنه لبندٌ من بنود الابتسام و قواعده،الغناء و الاحتفال، و النسيان الشّبه مُحال.

رمقت ساشا شقيقتها كاثي تبادر بالضحك أمام كل دمعةٍ حبيسةٍ وراء أعين الأطفال.
فراعت هذا التّماسك، و السّبب الأسمى الحاضر في عزم كاثي، فلا تبكي بسهولة، عرفت بقوتها الجنونية، الحقيقية القاسرة، و بطلب منها، قامت كاثي باستلام القسم الخاص بمرضى السّرطان في المستشفى، كباراً و صغاراً، لأنها أيقنت أن امرأة حازمة مثلها ترجو من غيرها من النّساء بالانحياز نحو قوتها و تقليد بنيانها الرّصين.

إن خيبة ساشا موسرة حيال انعدام بحثها أو انشغالها، فتفهمّت كاثي الأمر بعد اقتناعها بأمر يحتمل صعوبة و بحثاً كهذا.

جلست ساشا بين طفلين و عانقت اثنينهما، أتت كاثي تحاول احتضان البقيّة فقط بهذي الذراعين.

رفعت كاثي إبهامها إلى العازف كي يبدأ ، أومأ إليها مُحرراً حركة أصابعه على مفاتيح البيانو، تداخل عزف بقيّة العازفين مع احترافيته.

و بان سمع الأطفال مسترسلاً مع تلك النغمات المنسابة عواطفاً، إن الموسيقى ليست كافية مهما صنعت، فالكلام أجود مفاتيح العيش، و أرقاها.

وذلك ما اعتصر قلب ساشا ندماً، أرادت أمسية مثالية، أرادت ابتسامة مشبعة، و قهقهة.

لكن هذه المرة لم تفلح، لم يقع في نصيب هؤلاء، أضاع الرشد ذلك الطريق.

تعالت الموسيقى حباً، وانفعالاً، لكن وجوه هؤلاء الأطفال جمدت تستمع فقط و تقدر احتراف العازف و مستواه.

أضحى الجو غريباً، كامتحان تقدير في معهد موسيقى، و خلا من الفرح، متيهاً غايته التي أقيم لأجلها.

لكن الرشد وصل واجداً ما أتى من أجله، و راحت الموسيقى تُغنّى، و أوضحت ما وراء الستائر ، نبرة صوت إيجي النادرة إبهاراً تملّكت انتباه الجميع، عززت ثقة العازفين، و كوّنت تفاعلاً مبهجاً للأطفال، لدرجةٍ أوقفت جلوسهم قفزاً مع ترديد كلام إيجي و اختياره لأجمل أغنية مهيبة منهضة للآمال المحطمة..

"سأكون آخر من يقف, كلا ذراعيّ في الهواء عالياً, لأنني بطل, ستنظرون إلي باحترام في النّهابة, أنا أعيش لخوض هذه المعركة، أنا مقاتل، أنا الأعظم، أنا الأقوى، و لا يمكن أن أُقهر.. أنا منيع و غير قابل للكسر، أنا غير قابل للردع، لقد طرحوني أرضاً فنهضت مجدداً أنا البطل، لا يمكنكم أذيتي لأنني لا أشعر بالألم بعد الآن، خلقت لأتباهى, ولدت لأفوز بمعركتي, أنا البطل"

The Champion

أصبحت أنفس الأولاد بأنفةٍ لا تترنح، و مرض السرطان مردوع منسيّ وهو أسقل و أدنى اهتماماتهم.

فكل ما يعرفونه الآن هو أنهم أبطال، محصنين، غير خائفين من تابوت السعير.

خضعت ساشا لإرادة دمعها بالسقوط، أخيراً..

اقتربت كاثي تهمس لها "أهذا هو الفتى غريب الأطوار؟" استفهمت لتدنو هي الأخرى "نعم إنه هو، إيجي" نقشت ابتسامة رضا، ابتسامة انشراح، ابتسامة أمل..

كوّن غناءه درب نظر جديد إليهم، ثقة عمياء بانتصارهم، و إخماد فجائي لجزعهم..

--

و لمرة أولى يشعر إيجي بحبر كلماته المغناة ينصب عاكساً إيجابيته عليه و على الأطفال، شعر بامتنان لنفسه، ولوم لرفضه المتهور، أحس بمقدار الحياة الموقظة للإحباط فيهم، أحس أن عونه تواجد بقوة و اتساع بينهم، لربما الحياة أبسط من تلك العقد التي ظنها في دماغ، لربما الحياة لا تحتاج لنسج بليون استسلام.

حين خطا من المسرح، راوده شعور سواعد محتضنة لجسده، سواعد متشكرة لقدومه، و لإحيائه هذا الاغتباط الضخم..

نظر نحو ساشا التي تدفن نفسها بين يديه, نظر إلى عينيها الحاكيتين مروءة امتنان، دامعة، نقية، هادئة..

" على الرحب و السّعة"

---

The War Of Existence || حربُ الوجودWhere stories live. Discover now