اختفى قتام عن ناظري في غضون ثواني، وعلمتُ أنه لا جدوى من اللحاق به. أي ثقةٍ يمتلكها ليراقبنا من على التل أثناء بحثنا عنه؟ خرج جيمس من المخزن ولحقه المحققون بخيبة بعدما تلاشى أملهم بالعثور على أدلة، ثم قال جيمس موجهاً خطابه إلينا:
ـ لا بأس، ما زالت لدينا فرصة، سنطيح بهم في الأسبوع القادم أثناء قيامهم بصفقة السيارات.
عدنا أدراجنا إلى السيارات فألقيتُ نظرة أخيرة نحو التل، لكن قتام لم يعد.
(قتام)
خرجتُ من منزلي مع خوذتي لأنطلق بالدراجة إلى كوخ جيفري للاطمئنان عليه، لكنني توقفتُ عند الباب حين رأيتُ الثلج الأول للموسم،
فرفعتُ رأسي إلى السماء مراقباً رقائق الثلج وهي تتساقط بنعومةٍ و هدوء، لتأخذني إلى ذكرى لم تنفك تؤلمني كلما زارتني.****
ا
ن شهر ديسمبر حيث تمرد الشتاء ببرده دون رأفة، وفي إحدى لياليه القارصة أقنعني رفاقي بالذهاب معهم إلى حفلة صديق غير مقرب، فوافقتُ رغم أن والدي أوصاني بحزم ألا أتأخر بالعودة. كانت الحفلة في منزل صغير حيث تكدّس الحاضرون في غرفة الجلوس والمطبخ وأرتجّ المكان بالموسيقى الصاخبة المؤذية للآذان. أخذ رفاقي يتجرعون الكحول كوباً بعد كوب بوجوهٍ ممتعضة وكأنهم ملؤوا أحشاءهم بالتيزاب، وحاولوا مراراً وتكراراً إقناعي بتجربته لكن رفضي كان قاطعاً. استهزؤوا بضعفي ناعتين إياي بالجبان، فاُرغمتُ على تجربة السيجارة فقط لأسكت أفواههم،
إلا أن رئتَيّ لم تحتملا الدخان ودفعتاه إلى الخارج بسعال قوي مما جعل رفاقي يضحكون ويزدادون في استهزائهم. ندمتُ على حضوري الحفلة وطلبتُ منهم أن نغادر المكان، لكن أحدهم لم يقبل. لم أكن أملك المال في حينها فأضطررت لأن أنتظر صديقي ليدفع لي تكلفة الحافلة ببطاقته. طال إنتظاري وزاد قلقي من تأخر الوقت والعقاب الذي كنت سأتلقاه من والدي، فأنتهى بي الأمر مغادراً الحفلة بغضب لأعود إلى المنزل سيراً على الأقدام لأربعين دقيقة تحت البرد المؤلم، ليبدأ بعدها ألم من نوع آخر.
كانت والدتي هي من إستقبلني عندما وصلتُ المنزل، بمعالمٍ شديدة القلق وعينين يملئهما الخوف. علمتُ حينها أن تلك الليلة لن تمر بسلام، وهذا ما حصل بالفعل. كان أبي يستشيط غضباً بسبب تأخري وتضاعف غضبه حين شمَّ رائحة الدخان التي بقيت عالقة بثيابي. في بداية نقاشه الثائر تلقيتُ منه صفعة قوية جعلت رأسي يرتج، وفي المنتصف دفعة جعلت جسدي يرتطم بالجدار بقسوة، وفي نهاية النقاش تلقيتُ القرار النهائي. الطرد من المنزل.
ولم ينتظر حتى الصباح لينفذ قراره، بل قام به مباشرةً ولم يسمح لي بأخذ أي شيء معي إذ أن كل ما أملكه من ماله هو، لذا وفي تلك الليلة ذقتُ الألم الحقيقي. أن تحاول النوم في الشارع تحت قسوة البرد اللاسع هو أمر مستحيل، بل كان عليّ فقط أن أحافظ على حرارة جسمي لئلا أموت برداً. كم حاولت التواصل مع رفاقي لكن لم يجبني سوى هيثم الذي كان قد سكِر ولم يفهمني أو أفهمه. قضيتُ الجزء الأكبر من تلك الليلة متجولاً في الشوارع الخالية ليبقى جسدي محافظاً على بعض دفئه. بين الحين والآخر كنتُ أجلس على مقعدٍ حديدي أو خشبي لأريح قدمَيّ التي كانت تسعر من البرد أكثر من التعب، لأتابع بعدها مسيري. كانت تلك أطول ليلة تمّر عليّ، وأصعبها. حالما طلع الصبح اتصلت برفاقي، وكلُّ من أخبرته بحالي وطلبتُ منه السكن عنده مؤقتاً تعذر قائلاً بأن أهله لن يسمحوا. محوتهم في لحظتها من حياتي، لم يسندوني عند حاجتي رغم أنني لم أتردد يوماً في الوقوف معهم إن كان في شجار مع شباب آخرون أم في مال أو غيره.
انتظرت حتى صارت الساعة التاسعة ليذهب والدي إلى عمله ثم عدتُ إلى المنزل فاستقبلتني أمي بعينين منتفختين حمراوتين واخذتني في حضنها وكأنني طفل، رغم أنني أصبحتُ أطول منها. عاتبتني على فعلتي وقالت إن كل ما حصل هو نتيجة أفعالي المتهورة ورفاق السوء الذين اخترتهم، طلبتُ منها طعاماً فأسرعت تجهزه لي وهي تبكي وتتابع عتابها.