أرخى جسده المرهق على كرسي المكتب من خلفه ، كل عظمة فيه تئن ورغم الليل الذي أسدل ستاره على مدينة شيكاغو الأميريكية إلا أنه ما زال يعذب جسده بالعمل عله يطهر روحه من معاناتها .. خطرت على باله فكرة جعلته يستقيم في جلسته وأنامله تتجه إلى حاسوبه كي يتصل عبر الانترنت بشبكة المراقبة بالكاميرات التي تنتشر في معظم أنحاء قصره .. في كل مرة يبحث بين كاميراته عنها يشعر بفورة ترقب و كأنه سيفعل ذلك للمرة الأولى .. و كأن أنامله لم تعتد ذلك طوال العام ونيف الماضيين! نعم قضى ما يتجاوز العام هارباً من ذاته التي تتعرى شيئاً فشيئاً برفقة إنسانة شفافة كماسة ، ليس خوفاً من تعلقه بها لأنه متأكد أن من الصعب عليه أن يتعلق بأي أحد بعد تجارب الخذلان المريرة التي خاضها طوال سنين عمره ، لكنه يتهرب مما يجد نفسه مضطر للتعامل معه ، كتلة مشاعر و أحاسيس تتمثل على شكل إنسانة لم يطق أن يحطمها ويرمي بها دون أن يرف له جفن ، ولم يطق أيضاً يتواصل معها بذات الشفافية والحساسية .. أراد أن يعتاد على فكرة وجودها في حياته دون تأثير مباشر منها ، ومع مراقبته لها عبر شاشات حاسوبه المتصلة بشبكة مخيفة وسرية كان يشعر كما لو كان يأخذ الxxxx المناسب للاعتياد عليها والتعامل معها بحدود وخطوط عريضة .. نعم هي موجودة في حياته لكنها لن تتجاوز يوماً حصونه المنيعة وهذا ما تأكد منه طوال الشهور الماضية الطويلة .. بل وتحرى أن يطهر نفسه من عوالق نشأته التي تجعله ضعيف القلب أحياناً أمام لمحات من الاهتمام والحنان .. هو يدرك هذا العيب في تكوينه ولا يريد لأحد سواه أن يكتشفه !
لكنه كان يراقبها ويتأملها أحياناً وكأنه يشاهد أحدث صرعات عالم السينما ، بل و إن تحركت في أروقة قصره تتبعها عبر كاميراته وكم كان يكره أن يفقد أثرها أحياناً ، أزرار حاسوبه التي تنتقل بين شاشاته السرية كادت أن تهترئ !
عام و أكثر مر عليهما دون أي وسيلة اتصال بينهما ، نعم هو كان يراها أحياناً عندما يحتاج وبشدة أن يراقبها ، لكن شهوراً كثيرة مرت بالبداية دون أن يسمح لنفسه بفعل ذلك .. و إن أدمن فترة ما مشاهدتها فإنه يعاقب نفسه بعدها بأسابيع طويلة من الحرمان كي يثبت لذاته أنه مستمتع بها كإنسانة تقاسمه الحياة ولو حتى عن بعد .. وليس أكثر !
استقرت أنامله أخيراً على الشاشة التي لمحها فيها ، ضم حاجبيه متعجباً وهو يراها في سروال قصير بالكاد غى شيئاً من ساقيها تعلوه كنزة قطنية تتسع حول خصرها كاشفة عن جزء منه ، شعرها مرفوع بإهمال والأهم من ذلك هو ذاك السلم المتحرك الذي تجره بإصرار بيدها وتثبته تحت ثرية البهو الكبيرة ، ارتفع حاجباه هذه المرة تعجباً وخوفاً وهو يراها تصعد السلم بصبيانية وتطلب من أم سعيد التي بدت ترجوها ان تهبط عن السلم ، بينما تلك الماسة تضحك وهي تشير إلى دلو الماء الصغير وما يرافقه من ادوات تنظيف ، الذين ما إن حصلت عيهم حتى بدأت برش الماء و المسح بمنظفات التلميع ، كان عملاً غاية في الدقة ومملاً في ذات الوقت ، لكنه لم يمل وهو يتابعه معها لحظة بلحظة ، رغم أن عينيه تجولتا عليها أكثر مما راقبتا عملها ، تمنى لو أن هذه الآلات يمكنه أن يتحكم أكثر بموقعها واتجاهاتها و مستوى تكبير حجم الصورة بشكل أكبر !
عندما أنهت عملها و بدأت بهبوط درجات السلم شعر بأنه أطلق أنفاسه ارتياحاً رغم عدم إدراكه المسبق بأنه كان يحبسها توتراً ، لكنه أجفل بقوة وهو يقترب أكثر من الشاشة برعب ما إن رآها تنزلق في آخر درجتين لتستقر جالسة على الأرض ، رآها تتأوه عن بعد لكنه تفاجأ وهو يراها تنفجر ضاحكة بعد لحظة واحدة فقط ، وهي تحاول الوقوف بصعوبة من الألم والمياه التي تسبب انزلاقها على الأرضية ، بينما الخادمات حولها يرفعنها وهن يكتمن ضحكاتهن التي انفجرت بعد لحظات معها ، لم يشعر أنه يبتسم ويضحك معها ، إلا عندما خرجت منه قهقهة خفيفة ومسموعة سرعان ما قطعها وهو يغلق الشاشة!
نظر إلى الساعة ليجدها تقارب الحادية عشرة ليلاً ما يعني أنها الثالة عصراً في عمّان ، أغلق ملفات أعماله التي دأب عليها و رفع من مستوى نظامية أعماله الاقتصادية طوال الشهور الفائتة ، تحرك مغادراً مقر مكتبه المتواضع الذي جعله كأحد فروع أعماله التي بدأ يوسعها ، وانطلق في سيارته مغادراً نحو الشقة التي يتقاسمها مع عز الدين !
أنت تقرأ
سلسلة النشامى/الجزء الثاني/أسيرتي في قفص من ذهب
ChickLitالحقوق محفوظة للكاتبة المتأنقة لولا سويتي