وقفت أمام المرآة تتأمل شكلها الجديد – الذي يبدو طبيعياً للمرة الأولى – شعرها الناعم الأشقر بدى كغلالة حريرية نسجت من أشعة شمس الظهيرة احاطت بوجهها الطفولي الملامح والمستدير برقة فطرية تلفت الأنظار ، عيناها الخضراوتان لأول مرة بدون أثر للكحل الأسود حولهما أو حتى بداخلهما ، استبدلت الحلقة التي على أنفها بفص صغير من الحجارة الصغيرة الكريستالية كي تخفي فقط الأثر الذي تركه في أنفها ذلك القرط المقزز ، شعرت بالقرف من ذاتها كيف كانت قادرة على محاربة كل ذلك الرفض الذي كانت تثيره في نفوس من حولها ، لماذا عذبت نفسها لسنتين طويلتين بهذا الجنون والتمرد اللذان أذوها أكثر بكثير مما أذت به غيرها .. مرّ في مخيلتها دولاب ملابسها وقد تعلقت عليه تلك السترة ، تنهدت وهي تتمنى أن تشكر صاحبها فعلياً على الصحوة التي منحها إياها أن تشكره و تصفعه للمرة الثالثة في آن واحد .. تشكره على كونه كان رجلاً فعلياً ولم يعاملها بما كانت تصرفاتها معه أهلٌ له وتصفعه أو تلكمه لأنه أذاها كما لم يفعل أحدٌ من قبل .. آذاها و أثر بها .. لا تستطيع أن تنساه أو أن تخرجه من عقلها ولا حتى لدقيقة واحدة كاملة الثواني ! لكن هذا جزاؤها من الله على ما كانته من إهمال .. كل فتاة فاسدة أخلاق عليها أن تتوقع من الله أن يبتليها بحدث يصفعها ويتركها حطاماً ، نعم هذه سياسة الكون بأكمله لا شيء يمر دون عقاب ، لا أخطاء مجانية إلا ربما في بداية الحياة ، لكن بعد سن معين على كل إنسان بالغ عاقل أن يعرف أن أخطاءه ستكون مدفوعة ربما مؤجلاً لكنها مدفوعة بلا ريب .... في الدنيا أو الآخرة .. لكنها مدفوعة حتماً .. إن لم تتعظ بكلمات والديك أو بنصائح ذوي الخبرة فتوقع أن تتلقى درساً باهظ الثمن يعلمك معاني الحياة بأكملها في تجربة واحدة ! اصنع ما شئت فكما تدين تدان !
ذلك الانطباع الخاطئ الذي كانت تعطيه عن نفسها لكل من حولها جعلهم جميعاً ينتظرون ساعة استحقاق الديون ، ساعة الدفع .. لكن الله لطف بها وجعل صحوتها على يد رجل رغم جنونه وغضبه الذي أوشك أن ينتهك بهما أعز ما لديها إلا أنه كان لديه من الرجولة ما جعله يتوقف فجأة مبتعداً عنها متحاشياً النظر إلى ما سببه من عريّ لها رامياً بالأغطية عليها وهو يسب نفسه أكثر مما سبها !
ترقرقت عيناها بالدموع وهي تفكر ماذا لو أنه أكمل ؟؟!! من سيصدق براءتها ؟؟ من ستقنعه دموعها ؟! من سيرى الضعف الكامن وراء كل هذه الشراسة ؟! ماذا كان ليحل بها ؟؟!
كفكفت دموعها قبل أن تذرفها ما إن سمعت باب الغرفة التي هي فيها يفتح و رأس خالتها التي تصغر والدتها تماماً يطل عليها وهي تقول :
- يلا نتالي لازم تطلعي ... عبد الحكيم و عيلته صاروا برى ..
سكتت قليلاً وهي تتأملها ، ثم اضافت بابتسامة ملتوية :
- والله يا هبولة طالعة متل القمر .. كان لازم من زمان شلتي هالشحبار من شعرك وبطلت تحطي الكحلة السودا بعيونك .. منيح إلي إجيت معنا عالصالون اليوم!
ابتسمت نتالي وهي تغادر غرفة جدتها برفقة خالتها، وقد طغى عليها شعور بالفرجة وهي تستعد لاستقبال حياتها الجديدة ، حيث وجه عمها عبد الحكيم يعدها بالأمان والطمأنينة والحماية ، كانت تشعر بالإثارة وهي تتخيل نفسها بعد أيام قليلة في منزل جديد و اخوة جدد ، أخ و أخت يقطنان في ذات المنزل معها ، بينما أخت ثانية متزوجة من ابن عمها.
تعرفت إلى الجميع وسادت حالة من الهرج والمرج في جو غرفة الضيوف في منزل عائلة سلمى ، تواجدت عائلة العروس كاملة أخواتها و أزواجهن و أولادهن لم يكن لديهن إخوة ذكور .. أما عبد الحكيم فقد تواجد هو و أولاده و زوج ابنته ، رغم غياب ابنه حالياً لأنه تطوع بإحضار المأذون الشرعي بنفسه..
جلست سلمى باستحياء قبالة خطيبها الرسمي حالياً ، بانتظار عقد القرآن شرعياً بعد قليل ، كانت متوترة كفتاة غراء لا تعرف عن الزواج شيئاً ، جلوسه بقربها ينهكها ، يستهلك قواها وهي تتابع تحركاته ترقباً لأي تقارب حميمي قد ينفلت منه في أي لحظة .. أناملها تمتد بين لحظة و أخرى تشد تنورة فستانها الواسعة كي تغطي ركبتيها اللتان تتجول نظرات عبد الحكيم عليهما في كل مرة تشد فستانها فيها ، كانت تعرف من تأمله المبطن لها أنه يلاحظ توترها بوضوح ، ويرى ارتباكها جلياً في كل ما تفعل ، لم تعرف كيف تتصرف كي لا تبدو خرقاء في نظره لكن تفكيرها هذا لم يزدها إلا توتراً ليأتي جرس الباب معلناً وصول المأذون الشرعي قاضياً على البقية الباقية من تماسكها ..
انسحب جميع النساء كي تخلو الغرفة للرجال ، وارتدت سلمى في غرفة مجاورة عباءة وشال قبل خروجها عندما ناداها والدها لتوقع على عقد قرانها الجديد ، خرجت وهي تكاد تكون مغيبة عن كل شيء حولها ، لم تر شيئاً حولها ولم تعِ سوى ارتجاف القلم بين يديها وهي تحاول أن تثبته على الورقة كي تخرج بتوقيع ما وعيناها لا تريا على ورقة العقد إلا أن الحالة الاجتماعية للعروس : مطلقة ، وللعريس : أرمل .. وتساءلت مراراً ترى هل يمكن لمزيج كهذا أن ينجح ؟؟
بعد فترة عاد الجميع إلى غرفة الضيوف بعد انصراف المأذون ، نتالي كانت على وشك الخروج من الغرفة باتجاه الضيوف عندما أطرق سمعها صوت مألوف ، شعرت بارتجافٍ يدبُّ في أوصالها خرجت أكثر كي تتأكّد ، عندما صفعت أنظارها تلك الهيئة المألوفة للقوام المفتول العضلات وهو يجلس مرفوع الرأس وبأنفة تليق بعينيه الرماديتين ، شهقت رغماً عنها بصوتٍ لم يسمعه سوى عمها عبد الحكيم الذي بدا متيقظاً بشكل مريب لردة فعلها ، ارتجفت بعنف ، كورقة ضعيفة في مهب الريح خاصة مع ارتفاع رأسه بضحكة عارضة والتقاء نظراتها الخضراوين بنظراته الرمادية ، وضعت يديها تكمم فمها وهي تهرب عائدة إلى غرفة جدتها وصور متتالية لتلك الليلة تتدافع في ذاكرتها ، ازرار قميصه المفتوحة وهو يقترب منها وكأنه يعتزم قتلها ليرفعها بسهولة وكأنها ريشة طير ، رفست وقاومت وركلت وخدشته بأظافرها في صدره ، لكنها لم تزد غضبه إلا جنوناً ،ليثبت ساقيها بساقه المستعرضة فوقهما و يصفعها عدة مرات قبل أن يمزق كنزتها بحركة سريعة واحدة ، ارتفعت يداها تستر نفسها لتمتد يداه إلى بنطالها ، وعند هذه اللحظة خرج صوتها من حنجرتها وكأنها تصرخ به لآخر مرة في حياتها ، وكأنها تستخدمه كله دفعةً واحدة ، صارت تبكي بجنون كما لم تفعل في أي وقت في حياتها ، وهي تتمتم بكلمات بلا وعي لاتذكر منها إلا :
- حرام عليك .. لا تعمل هيك .. بترجااااك .. مش عشاني .. عشان ماما
صمتت للحظات وهي تبكي بحرقة تقطع نياط القلب لتصرخ بعدها بصوتٍ أقوى وكأنها تتمنى من ندائها أن يقطع المسافة من البحر الميت إلى عمّان كي يصل إلى والدتها:
- ماااااامااااا !
لا تذكر ما حدث بعدها ، كل شيء يبدو مبهما لها عندما نهض بغضب ، شاتماً ببذاءة وهو يرمي عليها أغطية السرير ، قبل أن يمسك بها لتنهض متراخية ويسترها بسترته ، و يجرها وراءه ليعيدها إلى منزل والدتها ، لم تعرف من أين عرف إرشادات الطريق ولم تكن تهتم في تلك اللحظة سوى بوصولها سالمة رغم أنها أوقفته قبيل بناية منزلهم كي تحكي لوالدتها القصة التي شغلت تفكيرها طوال الطريق الذي استغرق بحدود ساعة كاملة كانت كافية لتصحو وتدرك مغبة ما هي فيه خاصة مع سلوكها السابق الذي جعلها طريدة سهلة للقيل والقال !
سحبت مناديل ورقية من العلبة المجاورة لسرير جدتها كي تمسح آثار الدموع الغزيرة عن وجهها ، هل يعقل أن يكون هذا هو عز الدين ابن السيد عبد الحكيم الوحيد ؟! يا الله ما العمل الآن ؟! كيف يجب أن تتصرف ؟؟! لم يكن في كل الجلسة رجلاً غريباً لا تعرفه سواه .. إذاً هو عز الدين !! غطت وجهها بكفيها وهي فقط تتخيل كيف يمكنها أن تعيش معه تحت سقف واحد بعد زواج والدتها ؟! ستشاركه الوجبات والجلسات .. ربما ليس كثيراً بحكم أنه مستقل بحياته تقريباً ، ينام فقط في المنزل لكن معظم أنشطته خارجية ، لكنها ستحتك به لا محالة ..
تصارعت أفكارها لفترة ليست بالبسيطة لتصل أخيراً أنها لا يجب أن تفسد حياة والدتها ، لقد عانت سلمى كثيراً مع والدها أولاً ومعها ثانياً ، لكن يبدو أن تسديد ديونها هي نتالي لم ينته ، فكما كانت شوكة في خاصرة والدتها ، هاهي حياة أمها الجديدة ستكون كالخناق المحكم حول عنقها ! شعرت بالعار وهي تجلس هنا كالجبانة بين هو يجلس بين الجميع كما لو كان المنزل يخصه أكثر منها ، الجميع يتساءل عنها فهي لم تبارك لوالدتها عقد القران بعد! لا بد و أنه سعيد بخوفها منه فما إن رأته حتى هربت كجروٍ ذليل .. إحساس بالقهر لفها .. ألم يتبق شيئاً من روحها القتالية ولا حتى القليل كي ينقذها في هذا الموقف على الأقل ؟!
أنت تقرأ
سلسلة النشامى/الجزء الثاني/أسيرتي في قفص من ذهب
ChickLitالحقوق محفوظة للكاتبة المتأنقة لولا سويتي