يومان كاملان لم تلمحه خلالهما ، تشعر أنه ينبذها كما نبذته ، ولو حتى متأخر جداً ، راقبت عمها حكيم تنتظر أقل علامة تخبرها أن مواجهةً ما حدثت بينه وبين ابنه ، لكن كل شيء يبدو على ما يرام!
كانت تحمل المولود الجديد بإرشاداتٍ من والدتها وهي تحاول أن تساعدها في جعله يتجشأ ، وذهنها مغيب تماما مع الزوج المفقود. ترى أين ينام ؟! هل يستخدم غرفته ؟! المغيظ في الأمر أنه يمر على والدتها ويسألها إن كانت بحاجة شيء بل ويجالسها هي و الطفل ، يجالس الجميع في الواقع ما عدا هي !
هل ينتقي أوقات خروجها من المنزل كي يأتي لزيارة عائلته ؟! هل عليها أن تتغيّب عن دوامها الجامعي كي تراه ؟! غيابه جعلها تدرك كم ازدادت تعلقاً به و بفكرة ارتباطها به أيضاً ، تشعر بالخيانة لأنه يتحاشاها ، وتراودها رغبة حارقة بمطالبته بحقوقها كزوجة باحترامها و بتبليغها أخباره و مشاركتها أحداث يومه ، ليس من حقه أبداً أن يهمشها.
-نتالي حرام عليك شوي شوي على ضهر الصبي رح تخليه يستفرغ !
خففت نتالي من قوة يدها المربتة على ظهر الرضيع وهي تشعر بالحزن عليه ، أبعدته قليلاً كي تتأمله وهي تهمس أمام وجهه بتعبيرات طفولية ، تمتلأ أنوثة ودلالاً :
-إنت ثغيييييييير .. يسعد قلبه .. حرام يوسف .. دبة نتالي؟!! دفشة ؟؟!.. بدك ماما سلمى ؟؟!
تراقص حاجبي سلمى وهي تقول لها :
-هيو ساكت ما ماله شي .. مين حكالك بده إياني .. خليه معك شوي نفسي أنام !
برمت نتالي شفتيها وهي تقول بامتعاض ظاهري لم تعنِ منه شيئاً :
-امتحاني بعد بكرة ، لسى ما استفتحت بحرف ، كل ما آجي أدرس بيطلعلي شغلة !
استلقت سلمى في سريرها وهي تقول بتعب :
-ساعة وحدة بس و بيرجع حكيم بساعدنا فيه ، خليني أنام يا نتول الله يخليك !
ضحكت نتالي لوالدتها التي عادت كعروس في بداية حياتها ترزق بطفل لأول مرة وتكاد تنهار من مسؤوليتها تجاهه ، لملمت حاجيات الصغير وهي تغمغم :
-ماشي خلص هيني طالعة ، بتعرفي لو راجع علي و وسخلي أواعي .. بدي .. بدي .. أبوسه !
كانت سلمى تبتسم باسترخاء وهي تستمتع في مرمغة نفسها بفراشها بينما تهمس لنتالي :
-بكفي تتحلفيله .. المفروض كان عندك ولد هلأ عمره قريب السنة رح يصير !
قالت كلماتها وغرقت فوراً في النوم ، بينما ينقبض قلب نتالي ، لأن حديث والدتها ذكرها بما حصل بينها وبين عز الدين في المستشفى ، غادرت الغرفة وهي تجر الطفل في سريره الصغير المتحرك فوق عجلات ، وقد ملأت السلة القماشية في أسفله بكل حاجياته ، من الحليب و الغيارات.
دخلت غرفتها وهي تعتقد أنها يمكنها أن تدرس بينما هو في مهده ، لكن لم تمضِ دقيقة أو اثنتين حتى بدأ الصغير بإصدار صوت انزعاج أخذ يتكرر بشكل متتالٍ ، ربتت عليه نتالي ، حملته ، مشت به ، رفعته إلى كتفها .. لكن الصوت كان يتحول إلى بكاء ، فصراخ ، حتى أصبح أخيراً يشبه العويل !
توترت وهي تشعر أنها لا تعرف ماذا يريد الصغير ، حاولت أن تصنع له زجاجة من الحليب ويداها ترتجفان من شدة ارتباكها من صوته ، لكنه رفضها بإصرار شديد ، هي لم تتمكن اصلاً من إيلاجها في فمه الصغير. رفعته إلى كتفها وحاولت أن تهدهده ، لكنه كان يبكي و يبكي و كأنها لم تحرك ساكناً ، أعادته إلى مهده ، تفقدت إن كان يحتاج إلى تغيير فوطته ، لكن سلمى كانت قد غيرتها له قبل قليل ، تركته قليلاً كي تذهب إلى والدتها تسألها ماذا يمكنها أن تفعل ، لتجدها غارقة تماماً في النوم !
عادت إلى غرفتها ودخلت وهي تكاد تهرول نحو المهد ، فوجدت عز الدين يقف محملقاً في الصغير ، يتحسس وجهه وهو يحاول أن يهدئه ، بلا فائدة ، لكنه ما إن شعر بوجودها حتى التفت إليها وعيناه تقدحان شراراً وهو يقول :
-في وحدة بتفهم وبراسها شوية عقل بتترك طفل رضيع لحاله بالغرفة ؟!
فغرت فاها من هجومه وقالت تدافع عن نفسها بيأس :
-و الله ما كملت نص دقيقة بعيدة عنه ، رحت بس أشوف إذا ماما صاحية وبتقدر تساعدني!
أجابها من فوره بعصبية وغضبه يتصاعد :
-بتاخديه معك مش بتتركيه لحاله مرمي بالغرفة !
ردت عليه وهي تشعر بالضيق من أسلوبه الاتهامي :
-ما بدي تسمع صوته وتصحى إذا كانت نايمة لأنو صرلها يومين مش نايمة بالمرة وهلكانة !
اتسعت عيناه وهو يصرخ بها آمراً :
-شو بتعملي لسى واقفة عندك تعالي إحمليه رح يفقع بكى الولد !
استجابت لأوامره بدون تفكير واتجهت نحو الصغير تحاول أن تسكته وهي ترفعه بين يديها بينما تشعر بالضيق الشديد من طريقة عز الدين في التعامل معها ، خاصة وهو يردف :
-مرة تانية لا تتركيه لو شو ما بدك تعملي ، إفرضي تشردق أو خنق حاله بحرامه !
التفتت تنظر إليه وبكاء الطفل يرفع وتيرة غضب وتوتر كل منهما إلى الدرجة القصوى دون أن يشعرا ويدركا ذلك ، صرخت في وجهه بعصبية :
-بكفي تعطيني أوامر ، كل أم بتحتاج تترك الولد ولو للحظة ، لو بدها تدخل الحمام شو بتعمل يعني ؟؟!!
ارتفع أحد حاجبيه بلؤم وهو يسألها ببرود شديد بينما الطفل ما زال يبكي :
-كل هاد مو عارفة تسكتيه ؟!! كيف كنت رح تصيري أم إنت ؟!
اتسعت عيناها غير مصدقة ما قاله لها وهمست :
-إذا الله كتبلي أصير أم!! مين إنت عشان تشكك في إرادة ربنا ؟؟!
تابع و كأنها لم تقل شيئاً :
-دائماً تفاقيد ربنا رحمة ، يمكن عشان هيك كان الاجهاض ، لأنك أصغر من إنك تكوني أم وتعرفي تسكتي هالصغير المسكين إلي كان رح يكون ابنك !
عصفت عيناها بألم شديد وهو يدرك أنه طعنها في صميم أنوثتها و أمومتها وكبريائها ، اختار الطفل تلك اللحظة كي يصمت قليلاً فهمست له :
-ليش ما يكون الله رحمه من أب ظالم و قاسي حطم حياة أمه و مرته ومش بعيد عنه كمان يحطم حياة ابنه !
ارتد رأس عز الدين إلى الخلف وكأن سهم كلامها كان حقيقياً و أصابه في مقتل ، لأول مرة ترى شعاعاً من الكراهية في نظرته إليها وهو يهمس لها :
-إياك تجيبي سيرة أمي على لسانك ..
وقطع المسافة بينهما في لحظة كي يمسك بمرفقها بقسوة شديدة ويرعد بغضب أسود :
-فاهمة ؟؟!! أمي خط أحمر ما حد بقرب عليه !
كانت نتالي قد ندمت أشد الندم على كلماتها قبل أن تنتهي منها حتى ، وما رأته في وجه عز الدين ونظراته أشعرها أنها حطمت شيئاً ما بينهما ، خاصة وهي تراه يتأملها في تلك اللحظة وصراع عنيف يتقاذفه تحت الواجهة الصلبة ، وكأنه يوشك على ارتكاب شيء أو قول شيء و يمنع نفسه بالقوة من فعل ذلك ، أغمضت عينيها تنتظر الكلمة الفيصل منه ، لكنه تفوق على غضبه وهو يغادر الغرفة وينادي بأعلى صوته :
-ريم ... رييييييييم ... روحي خدي يوسف من نتالي قبل ما يفقع الولد من البكى !
ريم التي كانت قد دخلت البيت لتوها ، هرولت السلالم وهي تسمع صوت أخيها كما لم تفعل من قبل ، ودخلت غرفة نتالي رامية بحقيبتها جانباً وهي تأخذ الرضيع منها ، لترى الأخيرة تنهار جالسةً على طرف سريرها وهي تجهش في البكاء كطفلة صغيرة !
أنت تقرأ
سلسلة النشامى/الجزء الثاني/أسيرتي في قفص من ذهب
ChickLitالحقوق محفوظة للكاتبة المتأنقة لولا سويتي