تسارعت خطواتها نحو قاعة الاجتماعات التي غادرتها قبل أربع ساعات مرت عليها وكأنها نصف ساعة ، انشغلت بالتحضير للاجتماع العظيم الذي رمى به عز الدين إليها ، هذا عملها بالتأكيد ولو كانت السيدة سلمى هنا لما احتاج أحد أن يخبرها أن مسؤول الشؤون الإدارية وشؤون الموظفين هو الراعي الرسمي لهذه الاجتماعات !
دخلت القاعة قبل الجميع وعلى الفور توجهت نحو الحاسوب المحمول كي تشغله وتربطه بجهاز عرض البيانات ، وتسدل الشاشة البيضاء الكبيرة ليتم عرض ما حضرته عليها ، لخصت كل الاجتماعات في عرض تقديمي مستخدمة أحد برامج الحاسوب المعروفة لهذا الغرض ، تسلسلت في نقاطها ولن تنكر أنها استعانت بالسيدة سلمى التي أضافت لها الكثير على شكل نقاط صغيرة لكنها أعطت لمجهودها صفة الكمال !
عدلت تنورتها الواسعة التي بالكاد وصلت ركبتيها بلونها الأسود وشريط الساتان الذي يزين خصرها فوق قميص من الساتان بلونه الوردي الداكن المختلط بالأسود ، حركت شعرها لتصلح مظهره العام ، أما زينة وجهها الناعمة فكانت قد أصلحتها قبل لحظات قليلة !
بدأت الجموع بالتوافد إلى القاعة ، معظمهم تعرفهم جيداً كونهم رؤساء أقسام هامة في ذات الشركة ، لكن بعضهم بدا غريباً فخمنت أن يكونوا إما من شركة مصعب أو مسؤولين جدد تم تعيينهم بالاتفاق بين المدراء! شعرت بالتواء معدتها يتحول إلى اعتصار يكاد يجعلها تنثني على ذاتها وهي ترى السيد عبد الحكيم برفقة ابنه عز الدين ومصعب الناصر يدخلون القاعة كالأهرامات الثلاثة . رطبت شفتيها برعب ، كيف يمكنها أن تقود اجتماعاً يقيمها فيه أباطرة التسويق والاقتصاد هؤلاء ؟!
قرأت سورة الفاتحة بسرها بشكل سريع قبل أن ترسم ابتسامة احترافية على وجهها وهي تستهل اجتماعها بتردد بسيط .. لكنها خلال لحظات كانت تنسجم تماماً فيما تفعل .. خاصة وهي ترى الابتسامة السعيدة على وجه السيد عبد الحكيم وهو يومأ لها برأسه مستحسناً لأسلوبها ، بينما ابتسامة عز الدين كانت أكثر لؤماً وهو يحاول أن يخفيها وكأنه يدرك مفاجأة مصعب بما يرى ، أما مصعب فقد ارتفع أحد حاجبيه وهو ينظر إليها بتركيز شديد و كأن ما يراه لا يعجبه أبداً .. توترت وهي تحاول أن تفسر أسباب تلك النظرة ، لكنها تلاهت عنه وهي توزع منشورات كانت كا نسختها على عدد المجتمعين توضح بعض التفاصيل التي تحتاج إلى تدقيق ودراسة واتخذت قراراً بألا تنظر إليه أبداً طوال فترة الاجتماع كي لا يشوش تفكيرها !
بعد حوالي الساعة ونصف كان الاجتماع قد بدأ ينفض ونظرات مصعب نحوها ترعبها ، شفتيه مشدودتان بطريقة غير ظاهرة لكنها تعرفها جيداً وحفظتها عن ظهر قلب ، وجهت لها أسئلة من معظم الحاضرين ، وتوقعت أن يشارك بأسئلة فتاكة لكنه كان ينقل نظراته بين من يسألها وبينها والتقطيبة تزداد انعقاداً بين ناظريه !
عندما خلت القاعة إلا منه ومن الأباطرة الثلاثة ، ابتسمت بارتياح بينما السيد عبد الحكيم كان يقول :
- اليوم بدي أروح أبشر سلمى إنو تلميذتها احتمال تتفوق عليها !
ضحكت بجذل واستغراق ففاتها الاستياء الذي هاجم وجه زوجها وهي تجيب ببراءة :
- مستحيل أتفوق عليها ، بحياتي ما شفت إنسانة منظمة ودقيقة ومحترفة متلها أصلاً أنا اليوم استعنت فيها كتير !
ضحك عز الدين وهو يجيبها بهدوء :
- والله يا عمي سلمى بشؤون الموظفين مافي متلها ، والدليل التلميذة الي طلعت من تحت إيديها .. برافو ماسة حضورك بالاجتماع اليوم كان رائع ولا كأنو أول مرة بتديري اجتماع لوحدك !
التفتت إلى مصعب لينظر إليه ، كان على وشك أن يقول " شو رأيك مصعب " لكن انخفاض رأس صديقه وهو ينظر بعينين لا تريان في أوراقه أنبأه أن تعليقه لن يكون موضع ترحاب ، ولربما فتح نيران الانتقاد اللاذعة في وجه المسكينة التي بذلت قصارى جهدها كما يبدو !
لملمت ماسة حاجيتها وصمت مصعب بدأ يفتك بضربات قلبها ، كان عبد الحكيم و والده يتناقشان بهدوء ومصعب لا يشارك إلا إجابة على أسئلة أحدهما ، ولم يكن يقول أكثر من لا و نعم ! رفعت رأسها كي تستأذن الخروج فصعقتها تدقيق مصعب في وجهها ما إن رفعته مستغلاً انشغال الاثنين الآخرين بالحديث ، انتقلت نظراته على قميصها ببطء شديد أربكها ، و زادها اضطراباً ، لتستمر عينيه بالتجوال عليها عتى وصلتا إلى ساقيها المكشوفتان ومنهما إلى قدميها الملتفتين بصندال ذا كعب متوسط ، ظهرت من خلال أصابع قدميها الصغيرة والمطلية بلون وردي يلائم طلاء أظافر يديها ولون قميصها الحريري ! احمرت بشدة تحت وطأة نظراته ، لذلك حاولت أن تحرر نفسها من سطوة تأثيره وهي تقول بتحشرج :
- بعد إذنكم أنا رح أرجع على مكتبي !
جاءتها موافقتين ، لكن الثالث وقف وهو يقول برسمية شديدة :
- قبل ما تروحي على مكتبك ممكن تيجي على مكتبي في عدة نقاط لازم أناقشها معك !
هبط قلبها محترقاً بين أحشائها فهمست بخوف :
- ليش ما نناقشهم هون ؟!
التفت إليها و حدجها بنظرة نارية وهو يعي إنصات صديقه و والده لما يجري بتوتر فقال لها بصراحة مجردة :
- والله إذا بتحبي أناقشك بالأخطاء الواردة في البيانات إلي ذكرتيها في الاجتماع هون ومش على إنفراد فما عندي مشكلة !
شهقت بخفوت وهي تشعر بالتقزم أمام الاثنين الآخرين الذين كانا يمدحانها بإسهاب قبيل لحظات ، ليشير هو إلى أخطائها دون خجل أو حياء أو حتى مراعاة لمشاعرها ، وصلها صوت السيد عبد الحكيم وهو يقول باتزانه المعتاد :
- شوية أخطاء مطبعية و رقمية يا مصعب مش كتير مهمة !
ارتفع حاجب مصعب وهو يتجه بأنظاره نحو والد صديقه وهو يقول :
- يعني مو لحالي إلي ملاحظ هاي الأخطاء !
تمنت ماسة في تلك اللحظة لو أن الأرض انشقت وابتلعتها ، تدرجت في صدرها رغبة عارمة بالبكاء بعد التوتر الذي عانته طوال النهار ، شعرت براحتيها تتعرقان كما لو كانت مصابة بمرض السكري ، ضمت قبضتيها بقوة شديدة وهي ترى عز الدين يلتفت إلى صديقه :
- كلنا معرضين لحدوث متل هالأخطاء يا مصعب .. المهم لب الموضوع كان سليم ومثالي تقريباً !
وعلى الفور سأله مصعب :
- هل هذا يعني إنو ما بنقدر نتحاشى هالاخطاء المرة الجاي ؟!
أجابه عز الدين بوضوح :
- طبعاً بنقدر.
التفت مصعب خارجاً من الغرفة كي يقول :
- خلص و أنا عشان هيك ناديتها ، لأنو شكلك لا إنت ولا عمي حكيم ناويين تلفتوا نظرها لهالأخطاء البسيطة !
خروجه من المكتب جعلها تلحق به دون أي كلمة وهي تنظر امامها بخط مستقيم خجلة من التقاء نظراتها بنظراته ، دخلت مكتبه و تعمدت أن تترك البا مفتحاً خلفها ، خاصة أنه كان قد استقر في مقعده خلف المكتب ، راقب تحركاتها بغيظ ، ولما بقيت واقفة ، أشار لها بالجلوس على أحد المقعدين أمام مكتبه ، زفرت بامتعاض وهي تجلس على طرف الكرسي ، وقدمها تدق الأرض بعصبية ، تأمل توترها المتمثل بحركة ساقها ، شفتيها المزمومتان بقوة ، عينيها اللتان تحيدان عنه بتطرف ، شعر بالتعب من محاولة تواصله معها ، ترفضه وتقاومه وتكره كل شيء يأتي من طرفه ، هو لم يعتد على ذلك ، ويكره كثيراً الشعور بالرفض ، همس لها بهدوء :
- انا لما طلبت منك تيجي عالمكتب عندي ما حكيت ليش بدي إياك ، بس إنت بكترة أسئلتك وتعاملك معي كأنك ما بتطيقي تقعدي بمكان واحد معي بخليني اهاجمك زي ما بتهاجميني !
اتسعت عيناها قليلاً وهي تستغرب محاولته للتفسير ، حتى و إن كانت استبدادية ككل شيء فيه ، ليكمل بنزق وهو ينظر إليها بشيء من العصبية :
- كم مرة حكيتلك لازم تفصلي بين مشاكلنا الشخصية ولقاءاتنا هون بالشغل؟!
نظرت إليه وهي تحافظ على صمتها ، وعيناها تلتقطان شحوب وجهه ، احمرار عينيه ، اقتراب حاجبيه من بعضهما وكأنه يقاوم ألم ما ، يبدو على وشك الإصابة بوعكة الصحيّة ، هذه أعراض الانفلونزا ! صمتها ضايقه أكثر خاصة وهو يربط أن خوفها منه كان واضحاً حتى لعز الدين ووالده ، حتى هما اعتبراه مخطئاً عندما لفت الأنظار إلى وجود أخطاء ، لماذا يعامله الجميع على أنه مخطئ دوماً ؟! قضى قرابة الأسبوع يعاملها برسمية شديدة ولا يحدثها بغير العمل ، وما زالت لا تستأمنه على نفسها ؟! زفر بنفاذ صبر قبل أن يقول :
- خلص طالما عرفت إنو أخطائك كانت شوية أخطاء مطبعية خاصة بالأرقام ..وفي كم بند ما ذكرتيهم لبعض الأقسام ، بكرة ببعتلك تلخيص فيهم .. بتقدري هلأ تروحي على مكتبك !
قال كلماته الأخيرة ويده تفرك جبينه بقوة ، شعرت فجأة بأنها هي التي أخطأت بحقه وليس العكس ، لماذا هو قادر على استمالة عواطفها بهذه السهولة ، لم ينطق بحرف إلا عندما أراد انتقادها وهاهو يشعرها بأنها أخطأت لما تضايقت منه عندما انتقدها .. شخصية معقدة فعلاً !
أنت تقرأ
سلسلة النشامى/الجزء الثاني/أسيرتي في قفص من ذهب
ChickLitالحقوق محفوظة للكاتبة المتأنقة لولا سويتي