لم تكد تتحرك في جلستها التي استمرت لوقت طويل .. طويل جداً وهي تبكي بحرقة شديدة ثم تهدأ مفكرة كي تصل مجدداً بعصفها الذهني نحو مأساتها لتبدأ بالبكاء من جديد! الغريب في الأمر أنها على يقين أنه تركها كانت تشعر بلحظة انفجار قريبة منها جداً طوال الفترة الماضية تشعر بها وتتناساها ، تحسها وتتغافل عنها ، تدركها وتهملها ، لم يرها عز الدين يوماً نداً له والتفسير الوحيد لغيابه أنه تركها ، لم تفكر للحظة بأنه ينقل متاعهما للبهو في الأسفل أو أنه يحضر للسفر بقضاء شهر العسل كمفاجأة لها .. صمته بعد ليلة مشحونة المشاعر كالتي قضياها سوية أرعبها ، كانا روحاً واحدة ، تشاركا الكثير في ساعات قليلة ، شعرت أنها زوجة وهو يميل نحوها ويهمس في أذنها كيف عليها أن تتصرف وماذا يجب أن تفعل ، شعرت أنها دميته الخاصة وهو يحركها كيفما يشاء بينما يعلمها أبجديات الحب ! صحيح أنه كان جامحاً في البداية وهو يهمس بأسئلة ترعبها مثل " إنت مش خايفة مني ؟ " أو عندما يقترب منها كثيراً كان يقول بوحشية " ما بتذكرك هاللحظة بلحظات تانية مشابهة من كم شهر ؟؟ " لكنها كانت تحتضنه في كل مرة وتهمس بذوبان كامل " عزووو " ليتحول غضبه إلى بخار وهو ينغمس تماماً في لحظات الحب الأسطورية التي تمر بين أي زوجين متحابين ليلة زفافهما !
شهقت باكية وهي تستعيد كل لمسة وهمسة ورجفة ، كل ما عرفته منه وتعلمته على يديه ، لم تكن بضعة ساعات تلك التي قضتها بين ذراعيه بل عمراً بأكمله ، لماذا أصابه الجمود بعدها ، أصبح كالأصم الأبكم غارقاً في تفكير لم تعرف فحواه لكنها عرفته الآن .. وبالطريقة الأصعب !
دفنت وجهها بين ذراعيها المستندتين على ركبتيها ، و أغرقت في البكاء من جديد و أفكارها ما زالت تحوم متى وأين أخطأت ؟ ما الذي حول العاشق الولهان إلى غاضبٍ حيران! كان يستعر ببطئ وهو يغادر السرير ويأخذ حماماً ليقف بعدها على الشرفة لتراه أول مرة في حياتها يدخن !
رفعت رأسها وهي تعصر المزيد من الدموع من عينيها وتهمس بينما قبضتها تهوي على فخذها بقهر وألم يفطر قلبها :
- غبية .. غبية وتافهة وصغيرة وهبلة ... وكل إشي .. لسا بحلم وبتمنى بعد كل إلي شفته !
شعرت بالجنون وهي تتكلم مع نفسها جملة كاملة وطويلة ، فرفعت يديها تغطي وجهها وهي تسند رأسها على الحائط من خلفها ترتد به بشكل رتيب ومتكرر مصطدمة في كل مرة به و كأنها تعاقب نفسها بشيء من الألم الجسدي لما سببته لروحها من جراح عميقة تغاضت عن كل الإشارات التي التقطها دماغها طوال الفترة الماضية والتي تدل على حدوثها قريباً !
مع دخول وقت الظهر ، وقفت وهي ترتجف خوفاً وارتباكاً ، ماذا تفعل ؟! كيف ستقضي على حب امها الوليد لعبد الحكيم ، كيف ستهشم زواج لم يمر عليه أكثر من شهر أو أربعين يوماً بالتمام والكمال ؟! غسلت وجهها بالماء البارد وشعرت أنها ستجن غن بقيت حبيسة هذه الغرفة التي تحمل ذكريات كثيرة في كل زاوية منها. لكن عليها أن تستحم أولاً علها شعرت بشيء من صفاء الذهن !
عندما خرجت من الحمام مرتدية المئزر القطني ومنشفة مشابهة تلف شعرها ، لم تعي أنها تدور بعينيها في كل أرجاء الغرفة بحثاً عنه ، التوى قلبها وهو يحترق بهيب الإدراك ، مازال هاجراً لها ، مازالت ذكرياتهما سوية غير قادرة على الانتصار على شكوكه وكراهيته لها ، شهقت باكية رغم تماسكها الشديد وقراراتها الصارمة التي كانت قد أخذتها أثناء اغتسالها بأن لا وقت للدموع وعليها أن تستجمع شتات نفسها وتتجاوز محنتها بأقل خسائر ممكنة ، عليها أن تفكر كيف يجب أن تتصرف لا أن تنتحب على مصابها ! لكنها بمجرد أن خاب أملاً تحاشت التفكير به وهي تخرج من حجرة الاغتسال انهارت في بكائها .. لماذا لا يراجع نفسه ويعود ، مستعدة أن تسامحه وتتجاوز عما حدث ، سيتفاهمان فيما بعد لكن أن تعود لوالدتها وحيدة بعد ليلة الزفاف هذا ما لا يمكنها احتماله ، كمية الحزن التي يجب عليها أن تتعامل معها والفاجعة التي ستلف أفراد عائلتها ترعبها في حال لم يعد ، وفي ذات الوقت تعرف أنه لن يعود ، وأنوثتها لا تقبل طعنه المتعمد لها ، لكن الكرامة والأنوثة آخر ما تفكر به أمام هول المصاب الذي ينتظرها ! ارتجفت شفتاها و هي ترمي بنفسها على السرير كيف ومن أين الحل ؟! يا الله .. رحماك ربي !
لم تعرف كم مضى من الوقت وهي تبكي دون أن يعمل عقلها على إيجاد تصرف مناسب تقوم به كي تعالج الوضع الذي وجدت نفسها به ، أتتصل بوالدتها أم بعمها عبد الحكيم ، هاتف عز الدين ما زال مغلقاً لأنها تحاول تقريباً كل نصف ساعة أن تتصل به ولكن دون فائدة ، شعرت بأنفاسها تتهدج وعينيها تبيضان بغشاوة ، لاتذكر متى آخر مرة تناولت فيها الطعام ، لاتذكر أي شيء سوى ما حدث بينها وبين عز الدين وما اكتشفته بعدها صابحاً ، عقلها يغلق التفكير عن كل شيء ولا يضعها إلا في دوامة من تتكرر أحداثها بترتيب منذ لحظة هروب عز الدين بها من حفل الزفاف وكل ما تشاركاه في هذه الغرفة حتى لحظة اكتشافها لاختفائه هو وكل حاجياته .. سلسلة أحداث تتكرر دون توقف في دماغها ودون ان تملك القدرة على استخراج دليل واحد منها على مكان وجود عز الدين أو على طريقة ما تخرج نفسها بها من هذه الورطة !
أنت تقرأ
سلسلة النشامى/الجزء الثاني/أسيرتي في قفص من ذهب
Chick-Litالحقوق محفوظة للكاتبة المتأنقة لولا سويتي