الفصل الاول
اخيرا هبطت الطائرة ليحط قلبه بسلام بعد حرب ضروس اندلعت منذ سنوات طويلة ، منذ غادر الوطن متجها إلى باريس عاصمة العشاق ..لكنه لم يذهب إليها عاشقا .. بل ذهب إليها جريحا .
طالت سنوات الغربة وانتهت الدراسة ليتبعها العمل ويرفض عقله العودة ..لتندلع الحرب مذاك الحين .
قلبه يأن شوقا لبلده وأهله وعقله يرفض الخضوع لسلطان قلبه مجددا .. ولم لا ؛ فالمرة الوحيدة التى ترك فيها مقود حياته لقلبه خسر كثيرا .
ليس لأنها جرحت قلبه ، ولا لأنها فضلت غيره لقدرته المادية ، ولا للألم والنزف الذى عاناه .
بل لسنوات الهروب الطويلة التى تشعره بالخجل من نفسه وإن رفض الاعتراف بذالك ...
مصطفى حمدى الشامى ..
كان طالبا غر القلب حين رآها اول مرة تخطو بترقب وارتباك داخل الحرم الجامعى .
كان هو بعامه الأخير وهى بعامها الأول .
وعد اسم مميز لفتاة اكثر تميزا ، هكذا قال قلبه حين نطقت اسمها للمرة الأولى ...
بريق بعينيها يرغم القلب على الانصياع . وكأنه بريق مغناطيسى يجبره على اتباعها فحسب .
تعرف إليها وفى كل يوم يزداد شغف قلبه بها .
كانت عينيه تفضح شوقه لها .. هكذا أخبره صديقه نادر .
لكنه لم يهتم .فلتعرف كل الدنيا أنها مليكة قلبه وحاكمته . تلك الصغيرة التى يفتخر بإحتلالها لقلبه .
مر عامها الأول وعامه الاخير .
تخرج ليتم تعينه معيدا لتفوقه الدراسى .
خفق قلبه كما كان يخفق ذلك اليوم وعينيه تهرول فوق السطور . هو مصطفى حمدى ابن العائلة البسيطة سيصبح مدرسا بالجامعة.
كم كان أبويه فخوران بذلك النجاح الذى لا يدركه الكثيرون .
*****
مع بداية العام الدراسي الجديد بدأت نهاية أحلامه بها .. تلك الأحلام الوردية التى حملها بقلبه لها .
سلمه ضابط الجوازات جواز سفره مع ابتسامة : نورت مصر
ابتسم له بود اجاد تصنعه فى سنوات غربته الطويلة ليحمل حقائبه ويغادر صالة المطار يستقل عربة تعود به لمنزل عائلته .
أغمض عينيه وهو يعود لذلك اليوم الذى يجبر نفسه على احياءه كل يوم ...
يخطو بفخر وسعادة إلى الحرم الجامعي.حقا لم يختلف فيه شئ ؛ لكن الاختلاف فى مصطفى نفسه .
فهو لا يدخل هذه المرة طالبا كما إعتاد بل معلما . وكم اختلفت نظرته للمكان حينها ..
كان فى السابق يراه محطة انتقال .. أما الآن يراه حياة عليه أن يحياها بكل صعوباتها .
تتلفت عينيه هنا وهناك بحثا عنها .. تجوب صفحات الوجوه بلا ملل فهى حتما فى مكان ما .
اخيرا ظهرت تتهادى بخطوات واثقة .
اتسعت ابتسامته وهو يتذكر خطواتها فى العام الماضى .
اقترب منها سريعا .فكم اشتاق براءة ملامحها
: وعد
ناداها بكل الشوق بقلبه منذ فارقها فى نهاية العام .فقد رفضت أن تعطيه رقم هاتفها وأخبرته أن هذا سيزعج والدها وهى لا تحب ازعاجه ليحترم هو احترامها لوالدها ويتحمل الشوق برحابة .
توقفت لتنظر له وتمنحه تلك الإبتسامة الفاتنة : ازيك يا مصطفى؟ بتعمل ايه في الجامعة؟
ازداد قربا ليزفها تلك البشرى : اتعينت معيد
لم تخف عليه نظرة السعادة بعينيها .. سعادة لأجله !!
ما أروع أن يشعر أنه منبع سعادتها !!!
مرت الشهور وهو يجد بعمله حتى اتته يوما بوجه اكثر إشراقا .
ابتسم لإشراق وجهها دون أن يدرى أنها جاءت لتذبحه ...
******
فتح عينيه مع صوت سائق السيارة الذى يلتفت له الآن بجذعه العلوى كاملا و يهزه برفق : وصلنا يا استاذ .
اعتدل وهو يخلع منظاره الطبى ليفرك عينيه بإجهاد واضح
ترجل عن السيارة ليضع يده بجيبه ويخرج المال قائلا بحرج : مفيش معايا فلوس مصرى .
ابتسم السائق : شكلك راجع بعد سفر طويل
مد يده ليحصل على الورقة النقدية الأوربية : بس كدة المفروض تاخد باقى هتاخده مصرى
قلب الأوراق النقدية بأصابعه وعينيه ليضعها بجيبه ويحمل حقيبتيه الكبيرتين متجها لداخل المنزل صاعدا الدرج بلهفة .
***********
تستيقظ أفرين من نومها بنفس النشاط ككل يوم ، تتحرك بين جنبات المنزل بلا جلبة لتقوم بنفس روتينها الصباحى قبل التوجه إلى العمل .
أعدت الفطور لتحمله للخارج لتقابل والدها وقد استعد للمغادرة : إيه ده يا سونة !! هتخرج من غير فطار ؟
يبتسم حسين لدعابات ابنته الصباحية التى يعشقها ويهم بالرد لتقاطعه زوجته سمية : صباح الخير .
تتوجه أفرين بعينيها : صباح الفل على احلى ماما فى الدنيا .
تنظر سمية للطعام بضيق لم تتمكن من اخفاءه : مش قولت لك يا أفرين قبل كدة ماتحضريش الفطار .انت وشك اصفر وشكلك تعبان اوي
لكنها تبتسم بحب : بريحك يا جميل .
تبادلها سمية برغبة حقيقية فى إنهاء هذا الحوار : واللى يلاقى دلع ومايدلعش ؟؟
لتكمل أفرين : ربنا يحاسبه .. هههههه
تتعالى ضحكات ثلاثتهم وهم يحيطون بالمائدة لتناول الطعام بينما قلب كل منهم يكتفى ألما.
تبتسم وتتناول الطعام الذى تثق أنها ستتقيأه فى خلال ساعة واحدة على الأكثر . ورغم ذلك ستحاول قدر استطاعتها ألا يشعر أحدهما بتلك الأعراض الجديدة التى انتابتها منذ اسابيع قليلة .
هى لن تخضع لفحوص طبية مرة أخرى لقد سأمت كل هذه الحياة .
******
طرقات متتالية على الباب وهى تسرع قدر استطاعتها وتنتوى بهذا الطارق المزعج عقابا حاسما .
ألا يعلم أنه يطرق باب سيدة تجاوزت الستين من عمرها فيتحلى ببعض الصبر !!
ولكن من أين لأهل هذا الزمان بالصبر !!؟
فتحت الباب لتتوقف أنفاسها وهى تجوب بعينيها على تلك الملامح التى تعنى لها رؤيتها مجددا عودة من الموت .
مصطفى ..
نطقتها بتقطع يتناسب مع تقطع أنفاسها .
كم تغيرت ملامحه !!!
لقد صار اكبر واشد .. واشتد عوده بوفره
ابتسم بحزن لرؤيا العذاب بعينى والدته : هتسبينى على الباب يا ماما .
إنه صوته الذى لم تعد تستمع إليه منذ سنوات سوى عبر الهاتف . هو أمامها .
يتحدث إليها ...
اخيرا رفعت ذراعيها ليندفع هو متنشقا فيها رائحة نفسه التى افتقدها بحق .
واين يجد الإنسان نفسه إلا بين ذراعي أمه !!؟
اخفض هامته لتحيطه بدفء كاد يهلك إليه .وربتات أصابعها المرتعشة على ظهره تزيده دفئا .
غاص بين ذراعيها بلهفة : وحشتينى أوى يا امى ..اووووى
لتتحدث بصوت متهدج معاتب : توك ما افتكرت بعد عشر سنين يا مصطفى ؟؟
ابتعد قليلا ملتقطا كفها ليقبله بندم : سامحيني يا امى .. مش هسيبك تانى ابدا .
أحاطت وجهه بكفيها : أنا اللى مش هسيبك تمشى تانى .
صمتت لحظة : حتى لو حبستك زى العيال .. مش هتمشى تانى يا مصطفى .
********
غادرت أفرين تشيعها نظرات والدها الحزينة، رغم الراحة البادية على ملامحها إلا أنه يعلم أنها تعانى .
هى أفرين حسين التى تجاوز عمرها سبع وعشرين عاما ولم تحظ حتى الآن بزوج .. كم يؤرق هذا مضجع حسين .
ابنته الجميلة التى ورثت اجمل ملامحه وملامح أمها فكانت مزيجا رائعا من الجمال المتحرك .
لكن جمالها لعن مع بداية ربيعه .
ترى سمية نظرات زوجها الحزينة لتربت على كفه بحب : ماتخافش يا حسين والله قلبى حاسس إن ربنا هيعوضها خير .
تنهد بألم لا يخفى عليها .
خير !!! ومن أين يأتى لها هذا الخير !!!؟
لقد مرت اربع سنوات لم يطرق بابها خاطب .
رغم كثرة خاطبيها منذ تفتحت زهور ربيعها المشرق إلا أن كل مرة كانت تنتهى بكارثة .
نهض حسين عن مقعده فعليه ايضا التوجه لعمله ولولا أن الوقت هو للإجازة الصيفية ما ظل بمنزله حتى هذا الوقت .
فعمله سابقا كمدرس لغة عربية ثم عمله حاليا كمدير لمدرسة ثانوية كان يستوجب دائما مغادرة مبكرة .
نظر ل سمية بتعجب : مش هتروحى المدرسة ولا ايه؟؟
نهضت بدورها تجمع الاطباق : هشيل السفرة والبس وانزل علطول .
توجه للخارج تاركا زوجته لتغادر هى ايضا بعد ساعة تقريبا .
*******
استقر مصطفى اخيرا فى غرفته القديمة التى كانت تجمعه وشقيقيه سابقا فالمنزل متواضع ولا يسمح برافاهية الخصوصية اكثر من ذلك .
لقد هاتفت أمه شقيقيه ..لقد تزوج كليهما دون أن يحضر مصطفى زفاف أى منهما .
تنهد بحزن ..هو أراد ذلك ...
رغم وجوده بالحجرة لأكثر من ساعة إلا أنه لازال يتفحصها بشوق .تجولت عينيه لتسقط فوق سجادة صلاته المهترئة . تقدم امسكه ليتلمسه بحذر ووجل . منذ سنوات توقف عن إقامة الصلاة ، تنهد بضيق لا يعرف سببه وهو يعيد سجادته لموضعها دون أن يفكر في استخدامها وعقله يردد .. لندع هذا الأمر جانبا الأن .
وشيطانه يردد : وماذا جنينا من الاستقامة سابقا !!!
ليظل الوضع كما هو . استسلم مصطفى لشيطان نفسه وتوجه لفراشه .أسند رأسه المنهك للفراش ليعود بذكرياته إلى أسوأ ايام حياته والذى كان يظن حينها أنه الأفضل .
اقتربت منه وعد بخطوات ثابتة ليبادرها قائلا : عندى ليكى خبر حلو.
ابتسمت بود ليتشجع قائلا : أنا كلمت ماما عنك
تبدلت نظرتها للتعجب : عنى أنا !!!
دق قلبه بتوتر : ايوه يا وعد عنك انت .. مفيش فى حياتى وقلبى غيرك انت .
ظهر الاضطراب جليا ينهش قسماتها الغالية : مصطفى أنا عاوزة اقولك حاجة .
ليقاطعها بلهفة : هسمعك بس إسمعينى . أنا بحبك يا وعد ..بحبك من أول لحظة شوفتك فيها .. وحبك كل يوم بيزيد فى قلبى .
لتقاطعه هى بحزم لم يعتاده : مصطفى أنا هتجوز ابن خالى .
نظر لها بصدمة لتحاول تبرير موقفها : انت لسه في بداية حياتك لكن ابن خالى راجع من برة وجاهز وانا وافقت عليه
تبدلت نظراته كأنه يرى فتاة لا يعرفها لأول مرة : وأنا يا وعد ؟؟
لتخفض عينيها : أنا ماوعدتكش بحاجة .. إحنا كنا أصحاب وبس
زاد انقباض ملامحه : أصحاب !!! ماوعدتنيش !!؟
صمت لحظة ليقول : لا وعدتينى ..
رفعت عينيها إليه ليقول : لما قولتى لى أنى بداية ونهاية يومك ماكنش وعد ؟؟
تهربت بعينيها ليقول : مش لازم الوعد يبقى صريح ولا لازم يبقى كلام .. عنيكى وعدتنى ..لهفتك وعدتنى .. ضحكتك وعدتنى ..حتى دمعتك وعدتنى .
تنهدت بحزن : يا مصطفى انت فهمتنى غلط ..
قاطعها بحزم : بتحبيه ؟؟
قد يسامحها إن تملك غيره قلبها ، فالأمر خارج عن الإرادة ؛ وليته كان كذلك ...
عادت تتنهد : ابن خالى وجاهز وهيحافظ عليا ويعيشنى مرتاحة
ابتسامة جريحة تقطر دما من نزف قلب جرح للتو : بعتى نفسك يعنى .. مبارك عليكى .
وأولاها ظهره كما أولى حياته كلها
فى اليوم التالى تقدم بطلب لبعثة خارجية كانت الجامعة أعلنت عنها في وقت سابق وكان هو من افضل المرشحين لها .
لتمر عشر سنوات منذ غادر يصارع قلبه فيها عقله ليعود لموطنه .
وفى كل عام ينتصر عقله بالعديد من الأسباب الملفقة بعناية .
أما هذا العام فقد انتصر قلبه الذى يشعر الآن أنه برأ من جرحها الغادر .. تلك الوعد التى لم تعرف معنى الوعد .
تجربة فاشلة .. هكذا يخبره قلبه الأن .. مجرد تجربة فاشلة تخطاها ببراعة وقوة .
يراهن أنها لو رأته حاليا لتجرعت كؤس الندم .. لكنه للحقيقة لا يريد أن يراها .. سيمضى قدما .
سيهتم بعمله . لقد حصل على شهادة الدكتوراة منذ اعوام ..
وقام بالتدريس بجامعة فرنسية .
عمله ولينحى القلب جانبا حتى اشعار اخر
*******
وصلت أفرين لعملها ..هى محاسبة بشركة مرموقة ..دقيقة وحازمة ولم يعرف الخطأ طريقه لعملها مطلقا .
جلست خلف مكتبها لتشرد لدقائق .. لم تخف عليها نظرة الحزن بعينى أبيها ..هى تعلم السبب.
هى السبب ...
الليلة الماضية تحدثت عمتها لتخبرهم عن خطبة ابنتها .
ابنتها التى تصغر أفرين بخمس سنوات ..
لابد أن هذا الخبر جدد احزان أبيها .
عادت بذاكرتها إلى المرة الأولى التى اخبرها فيها والدها بسعادة أن ثمة خاطب عليها مقابلته ..
تراقص قلبها كما كان يتراقص ذلك اليوم ..لكنه يومها كان يتراقص فرحا أما الأن فهو يتراقص كذبيح يلفظ أنفاسه
كان كل شئ مثاليا تماما حتى طلب والده العريس أن تظل معه دقائق ليتعارفا ...
اسمك جميل جدا
قالها بود لعله يكسر حاجز الصمت الذى يغلفهما
اختلست نظرة خجلة إلى حيث يجلس ذلك الوسيم الذى يخطب ودها لتتسع عينيها بشكل افزعه هو : مالك !! بتبصى لى كدة ليه ؟
ودون أن تجيب انتفض جسدها عن المقعد لتسقط أرضا مع نوبة عنيفة من التشنجات .
هذا كل ما تذكره لذلك اليوم .. ولكل الأيام التى تليه .
كلما تقدم أحدهم لخطبتها يحدث ذلك .
ظنوه عارضا فى المرة الأولى ورغم انصراف هذا العريس بلا عودة إلا أن الأمر لم يبد شديد الأهمية حينها .
وعندما تكرر اخضعها أبيها للفحص الطبي .لكن اجمع الأطباء أنها سليمة تماما .
ورغم ذلك ظل هذا يتكرر حتى عزف الخطاب عن التقدم إليها
مسحت جبينها بأصابعها وهى تتذكر قول سمية ذات مرة وهى تظن أنها لا تسمع أن إحدى الجارات عيرتها بها وقالت صراحة أن هذه الفتاة تتهرب من الزواج بهذه الحيلة ..
تنهدت أفرين ومدت اصابع مرتعشة للأوراق أمامها
لا فائدة من تلك الذكريات يبدو أنها لعنة حلت بها لتحرمها حتى الأحلام الوردية .
دققت النظر بأوراقها لتشعر بذلك السائل الدافئ الذى يفر من أنفها .امتدت يدها تلقائيا للمحارم فى محاولة لوقف هذا النزيف الذى لا تعلم سببه .النت وحش بس إن شاء الله تخلص النهاردة