موقدٌ مشتعل، حكايا ليليّة، كعكٌ ساخنٌ وأغطيةٌ دافئة، هكذا كنتُ أُحِبُّ الشّتاء..إلى أن أرانِي وجهَهُ الشّرير وزمهريره القاسي، أصبحتُ أعيشُ بلا دفءٍ ولا طعام، لا حكايا ولا ألحان، حتّى نكهةُ كعكتي المنزليّة المفضّلة نسيتُها بفضل لعابيَ البارد ولساني الذي أمات العَطَش حليماتُه الذّوقيّة..
أتذكر تمامًا كيف كانت أُمّي تدعكه بالحنان وتخبزه بالحُبّ، كم اشتقتُ لها..!
آخر مرّةٍ رأيتُ فيها يدها النّاعمة تحت سقف بيتِنا الكبير، لا أعلم حقّاً كيف وصلت أمّي إلى هُناك!!
كأنها نزلت ببراعةٍ إلى أن اختفى كلُّ جزءٍ من جسدها، لم يتبقَّ سوى يدها وقليلٌ من وجهها، لطالما ظننت أنّ الأسقف ثقيلة كي يستطيع الإنسان النزول تحتها!
هل تعتقدون أن أمّي خارقة لكوني رأيتها نائمة أسفله ؟!
لكن مهما يكن، ليست خارقة للغاية، واضحٌ كم أنهكها ذلك! فقد كانت رماديّة الّلون مع قليلٍ من الأحمر على شفتيها..
سمعتها تنطقُ بآهاتٍ متوالية ونفسٍ مقطوع، ثم بصعوبةٍ قالت: "انتبه لنفسك، سأغفو ربّما لساعاتٍ طويلة"
أومأت برأسي، وجلست إلى جانبها، أمسكت يدها فوجدتها باردة جدًا..
وضعت فمي عليها، واستمررت بإخراجٍ هواءٍ ساخنٍ لتدفئتها، تماما كما كانت تفعل لي أمي الحنونة حينما أبرد..
بعد قليل من الوقت نامت أُمّي وبقيت انتظرها حتّى الصباح لكن دون جدوى!
فهي لم تصحو وتركتني وحيداً ليلةً كاملة!!
لمَ فعلت ذلك؟ ألا تحبني؟أتى الصباح اليائس على جفوني المرهقة..
قرصةٌ مفاجِئة!! إنّها عصافير بطني الّلحوحة مجددًا.. ذهبتُ أبحث عن طعام لكن يا لحسن حظّي! تهتُ ولم آكل شيئاً، كانت خطّتي أن أطعم أُمّي أيضاً لأنها لم تأكل جيّداً منذ أن مات أبي في ذاك البخار الأخضر الغريب الذي انتشر في كلّ مكان.. لكن بعد أن ضعت عن مكانها وسط هذا الخراب لن تأكل معي حتى لو وجدت طعامًا..
ما العمل؟ التقلّصات تزداد والبرد قارس، لم يعد لدي شيءٌ لفعله سوى استذكار أيّام الشّتاء الجميل.. وتدفئة نفسي بذكرياته الرقيقة..
يومٌ مضى و لم أعد أستطيع التّحمّل، زمّلوني أرجوكم، دفّئوني.. أطعموني.. أنقذوني.. أخرجوني من هنا.. إنّي بارد، باردٌ جدّاً وجائع، أشعر بعظامي تتفتّت، أنفي يحرقني، وجنتاي كأنها قطع ثلجٍ قاسية، عيناي ثقُلت حركتهما، شفاهي تهتزّ باستمرار حتّى أظافري تؤلمني، بل كل شبرٍ في حسدي يناجي ألمه على حدى.. أصبحت أرتجف كالعجوز، متى سيذهب الألم؟
بِعصاً خشبية صغيرة رسمت على الحائط مدفئة لعلّها تقتل بردي.. لكنّها لم تكن تضيءُ كالتي في بيتنا..
" تُرى متى ستأتي أُمّي لتُغطّيني مثل كلِّ ليلة؟! "
تساءلت.. وفي نفسي تمنيت ودعيت أن لا يطول قدومها..
أعتقد أن عقارب الساعة تمشي الآن.. أم هي توقفت مثلي بسبب البرد؟
تشتتت أفكاري.. من يفكر في عقارب الساعة في ظل هذه الظروف؟
هذا كان كلّ ما فعلته منذ أن رأيت أمي.. أفكارٌ تسعدني وأخرى تحبطني، لكن المنتصر دائمًا هو ذاك الألم الذي ينهش جسدي في كل ثانية..
لحظةٌ واحدة..
الألم؟ مهلًا أين الألم؟ هل يذهب..! لمَ يا ترى؟ هل جاءت أمي؟ هل استجاب ربي لدعائي؟
أجل فعل! هاهي قادمة، وفي يدها حلويّات وملابس صوفيّة، سأجمعُ قواي وأذهب إليها.. لكنني لا أستطيع المشي الآن.. لذا سأنتظر قليلا فهاهو الألم يختفي تدريجيا..
شُفيت تمامًا.. ركضتُ وأنا لا أزالُ في مكاني، حضنتها بقوّة، حلّقنا سويّاً إلى السّماء، كانت لحظةً منتظَرةً لا مثيل لها، أخيرًا وجدت دفئي وسعادتي.. وداعًا يا دنيتي ♡
~~~~~~~~~
"ملحوظة: الخط الغامق واقع والفاتح ذكريات"
من أقسى الخواطر يلي كتبتها بحياتي💔
تمثيل بسيط.. لمشهد واحد من مشاهد الحرب..
قد يكون هالموقف ألطف بألف مرة من مواقف حزينة غيره..
ما منقول غير الله يلهم المظلومين الصبر ويمدهم بالقوة💙
رأيكم؟
أنت تقرأ
خواطر منوعة ~🎵
De Todoمنوعات مما يجول في خاطري🎶 -الأجزاء غير مترابطة- حروف الكاتب لا تشبه حروفكم.. لأنها أجزاءٌ من روحه.. فالرجاء عدم نسيان حقوقي عند الاقتباس 💛