غنِها لي ...
أغنية عصفور لم يترك عشه
أغنية لن تنسيني إياها ألحان العالم كله
لأني أعلم أنها وجدت لي وحدي ولأجلي
لأني أعلم أني سأحيا بها ... حتى حين أرحلغنِها لي، ولآخر مرة يا عشي
لأن اللقاء والوداع لا معنى لهما بعد الآناعزفها بينما أنساب من بين كفيك
اعزفها وأنا أسقط ... أنا السبب، لست أنتَتذكرها لأجلي ... ولآخر مرة، أعلم أنك ستفعل، وستسمح لي بنطق اسمك الكامل وإن كنت تكره ... أعلم أنك ستحقق لي ثلاث أمنيات، وحين تصل الثالثة ستنسى العدد وتحقق لي ما أشاء بعدها، لأني الراحل
غنِها، اعزفها ... لأني لا أريد أن يسمع لصرخاتي من أحد
أنا أذوب بعيدًا ... لا يمكنك أن تجمعني من جديد، لعلي كنت زجاجًا يدوسه المارة في حياتي السابقة حيث كنت مرآةً مهشمة ... أو شمع ذاب في حرارة الصيف قبل أن يزين كعك الميلاد ... تلك الأشياء التي لن يذكرها أحد، تلك أنا
اعزفها، لحنها، تذكرها ... ثم انسَها وانسَني، فأنا سأنساني ...
لقد كان عالمي الداخلي مليئًا بالضباب، كما لو أني نسيت من أكون، ونسيت من يكون ... كما لو أني ولدت توًا ومن جديد دون أدنى رغبة، أردت التمسك بشيء ما، التشبث ... لكني لم أعرف ماهية الأشياء، لم أميزها ... مفاهيمي لم تعد تعني أي شيء، الثوابت والمتغيرات ... لم أعد أعي سوى تلك الانقباضة في صدري، كنت أطفو وسط كتلة سحابية يزداد برودها كلما حاولت فتح عيني، وأنا لا أعلم أين سأفتحهما.
كثيرًا ما يتساءل مغيبو الوعي عما إن كانوا في النعيم أو الجحيم، حين فتحت عيني كنت أدرك أني حي ... لم أمت، فشلت في انتحاري أو أن شيئًا ما أفشله وانتشلني، في اللحظة التي رأيته فيها يغفو جواري على السرير الأبيض وقد سحب الغطاء كله بأنانية تامة، علمت أني حي ... هذا والدي، هذا كيو لامبيرت كما عهدته، ينام في المشفى جوار ابنه الذي حاول الانتحار، ويسرق الغطاء كله ... الآن أعرف لمَ نهش البرد عظامي.
من عاداته ألا يستيقظ بسهولة، علمت أني مهما تحركت لن يصحو، ولم أكن أريده أن يفعل ... ما الذي سيقوله أحدنا للآخر حتى؟ لم يقل شيئًا حين غادر المنزل، ولم أعلم إن كان سيعود أم لا ... أسيقول شيئًا الآن؟
كلانا امتلك الكثير جدًا لقوله، لكننا وحسب ... لا نجرؤ ... لن نجرؤ على نحر أعناق بعضنا في الآن ذاته.
كنت أتفحص جسدي، ذراعاي ومعصماي ... ساقاي، كله امتلأ بالخدوش ... لا أذكر ما الذي فعلته تحديدًا سوى تحطيم مرايا المنزل والنوافذ كلها، مزقت جسدي ... مشيت غير مكترث على الحطام، وفي النهاية أظنني فقدت الوعي وسط الشظايا ... كل ما أذكره أني أردت الموت بشدة، وأن العالم كان عشوائيًا بشدة ... كرهت أن أراني، لكن كل زجاج ينكسر كان يتشظى لآلاف القطع، فتولد آلاف الانعكاسات بدلًا عن واحد فقط ... شعرت بعدها أن الشظايا تمتصني، ها أنا ذا انعكاس مثلها ... لطالما كنت.
كانت معالمه هادئة بشدة حين أفاق على حركتي، لم أتوقع أن يشعر ... عدل جلسته مثلي وبقي يحدق فقط، بقي كلانا صامتًا بخط مستقيم من التواصل البصري يحوي حروفًا وكلمات أكثر من وظيفته في خلق انطباع بصري وصورة ذهنية ملونة ... كانت نظرة باهتة، لكنها تحكي الكثير ... لم أعهد عينيه العسلية الشمسية المشرقة ميتة هكذا من قبل.
التمعت عيناه فكسر تواصلنا البصري ... ترك مكانه على السرير وجلس أرضًا ناحية اليمين، حدقت نحو النافذة ... لن ينتهي الأمر، ستستمر هذه المسرحية الصامتة، لن نلمس بعضنا ... ولن نتحدث، تخيلتني أمضي حياتي معه مجددًا بهذا الشكل، ففكرت بالانتحار ثانيةً إن كانت المحاولة الأولى قد فشلت وجعلتنا بهذا الارتباك، وبهذا الاغتراب ... أردت الموت دون أن نكره بعضنا وحسب.
لم أتوقع منه أي حركة حقًا، فارتعشت حين دفن رأسه في حضني ... ولم أعد أشعر بأي حركة له، سوى اهتزاز أنفاس ضعيفة جدًا ... ورطوبة دافئة سريعة الانتشار على ثيابي ... لم يفعلها من قبل، لكنه اليوم والآن ... يبكي.
شعرت أنه جثة ساكنة كل ما تفعله في هذه اللحظة هو إفراز الدموع فقط، وأنه هش أكثر من أي وقت آخر ... لو لمسته سينكسر، ويموت ... وأفقده للأبد، يشعرني أنه هو من حاول إزهاق نفسه وليس أنا.
لم يتحرك ... بقي على هذه الحال، قاومت ألا ألمسه، ليس خوفًا عليه هذه المرة بل ربما انتقامًا ... لم أرد لمسه وطمأنته أن كل شيء سيكون بخير، أردت عقابه ... هو الذي هجرني فاستحقها ... تمنيت لو أن بإمكاني هجره فقط لجعله يشعر ... ويدرك.
لكني لم أستطع ... لن يكون يومًا الفرد الذي أريد أذاه أو الانتقام منه، هو كل ما أملك ... فقط.
مسحت على شعره بضع ثوانٍ ... رفع بعدئذ رأسه، قد احمرت عيناه تمامًا، عرفت كم هو متعب ... مازحته " تبدو الآن كمن يبلغ مائة وست وثلاثين عامًا بدلًا عن ست وثلاثين فقط ... ستضيع فرصتك مع الممرضات، ألن تجرب حظك مع ملائكة الرحمة البيضاء؟ "
لم يقم بمجاراتي، ولم يبتسم ... هذا كشخص آخر " يقول الأطباء أنك ستكون بخير، أريد إخراجك الآن "
نظرت إليه كقط بريء مذعور ... لا أريد العودة للمنزل معه، حيث سنكون وحدنا ... وحيث هناك باب يمكنه فتحها والمغادرة من جديد، طمأنني بابتسامة دافئة وبعثر شعري ... ما بال دور الأب المثالي اليوم؟ وكم سيدوم هذا التقمص؟ أعيدوا إلي كيو لأعضه وأنتقم! هذا الأب يجبرني على احترامه!
قبل جبهتي، ساعدني في تغيير ثيابي ... وبعد التخلص والتملص من المعاملات الورقية ولقاء طبيب نفسي، كنا معًا نستنشق عبير الشتاء خارج المشفى، أمسك يدي بحرص شديد وأحاطها ... شعرت بالدفء يأخذ مساره داخل جسدي، ومركزه التحام كفينا ... بدونا كأب وابن مثاليين، لا تشوبهما شائبة ... ولم يحاول الابن أن ينتحر منذ فترة قصيرة.
توقفنا عند متجر للحلوى ... اشترى لي ما يعرف أني أفضله، ووضع الكيس الصغير في جيبي ... ثم راح يعدل لف الوشاح حول عنقي وهو ينحني ... وجدتني أكابر لئلا أشهق وأبكي كالأطفال ... " آسف " همست.
- " لن أسامحك " همس أيضًا
- " ولكن! ... " اعترضت، عرف أني سأرد اللوم عليه، لذا أغلق فمي بحشر قطعة حلوى وابتسم منتصرًا، ورحنا نتابع طريق العودة ... لا يزال ممسكًا يدي، كما لو أنه لن يتركها أبدًا، أعلم جيدًا أنه لن يفعل ...
ولأول مرة أبدو كطفل صغير، وهو كأب حقيقي ... مسؤول، وناضج.
أنت تقرأ
بطاطس و عسل أسود
General Fiction_ " قد أستبدلك بشطيرة من الخبز وأنا جائع ، فلا تعش دور محور الكون أمامي. " تمتم كيو بعد أن منحني ركلة قاضية أقصتني من سريره، رامزاً الى مدى أكاذيبه الملفوظة على طول تلك السنوات. " يوميات فتى مع والده " ٢٠١٧/٢٠١٩ _ كتابة مشتركة مع والدي. _ خالية من أ...