الفصل الثالث

4.1K 116 0
                                    


ركعت أمام قدميه خانعة تهتف بصوتها الباكي في رجاء يكسوه الجزع:
_ أبوس ايدك سامحني يا ريان، عارفة اني غلطت وكان المفروض أعرفك من الاول، أرجوك ماتعرفش حد
ما كان جوابه سوى أن ظل على حاله صلدا يرمقها بمعالم قاسية متجهمة، لم يرق لحالها وهي ملاكه الصغير التي ما استطاع أبدا تركها تذرف عبرة واحدة! بل كان دوما لها خير جناح خاصة بعد وفاة والدها قبل عام، ابتعد خطوتين للوراء ما ان ظن كونها ستقبل قدميه في حين يتحدث بنبرة غاضبة يؤنبها:
_ علطول كنتي تقوليلي انك بتحبيني وانك مش هتتخلي عني
ثم رفع بضعة أوراق يمسكها بيننا هادرا بزجر:
_ هو ده الحب اللي كنتي بتحبيهولي يا ست رهف؟! أعرف حقيقة انك لقيطة من برة؟!
أخذت عبراتها بالانهمار بلا انقطاع في حين تشعر بأنها عاجزة مكبلة لا تقو على النظر إليه، تشعر بالخطر يحلق حولها وقد أحست بتكرار المشهد من جديد حيث يقوم بفضحها كمن قبله، وفي ذات الوقت تتجنب نظراته الحادة وهي تشعر بالخزي بسبب كتمانها للأمر عن حبيب قلبها الذي سكن بربوعه دون أخذ الإذن حتى! فضلا عن تذكرها للحقيقة التي باتت كالعلقم في حياتها وليست بملك يدها لازالتها! فقط كل ما استطاعت القيام به هو أن تقف من جديد وأطرافها مزلزلة من شدة الخوف حيث تردف من بين نشيجها قائلة بتألم:
_ انا آسفة أوي، عارفة اني غلطت ف حقك وكان لازم اقولك بدل ما تعرف من بعيد، وعارفة أن انت مستحيل تسامحني، ليك عندي همشي من هنا ومش هتشوف وشي تاني
ودون أن تسمح له بفرصة الرد صعقته بنزع خاتم الخطبة عن بنصرها معيدة إياه إليه مكملة بحسرة:
_ أكيد نصيبك مع واحدة أحسن مني
ثم ابتعدت إلى الوراء بخطوات وئيدة مغادرة الشقة ومتحركة بلا حياة الى الشقة المقابلة حيث تسكن تاركة إياه يتخبط بأفكاره المتصارعة يكاد يصرخ من الألم على فقدانها وما اقدم عليه من عمل أحمق سيتسبب بفراق معشوقته الآسرة، ولكن كان وقع الصدمة شديد إلى الحد الذي دفعه الى طرد من كانت له كالوتين!

_ بعد خلاء الأدلة من بين يدي محامي الادعاء حكمت المحكمة حضوريا ببراءة المتهم أحمد عودة وإلغاء التهم الموجهة إليه، رفعت الجلسة
ألقى كلمته الأخيرة مع طرقة عالية الصوت انبعثت من مطرقة العدالة معلنة انتهاء الجلسة وضجيج الفرح قد ملأ قاعة المحكمة ولكن ليس الجميع، فقد وقف ريان عن الكرسي وأخذ يلملم اغراضه داخل الحقيبة وعلامات الوجوم تكسو وجهه برعونة، فما كان ينقصه سوى هذا أيضا! وما كانت فرصة كهذه يستطيع أن يخسرها ماهر الذي تقدم منه حتى صار مقابله يحدجه بنظرات متشفية، فتجاهله ريان موليا وجهه إلى أوراقه مسارعا بلم حاجياته بينما ينطق ماهر بنبرة يسكن الخبث بربوعها:
_ أهم حاجة تكون اتعلمت إن مش لازم تفتح لنفسك مكتب وتعمل كل التكاليف دي عشان تكسب قضية، المهارة هي المقياس يا ريان، مش المبادئ
أغلق ريان الحقيبة بعنف حتى كاد يقطع سحابها في حين التفت إلى ماهر مواجها إياه بملامح ممتعضة تعلوها عيون حارقة تكاد تضرم النار به في لحظة، حاول الحفاظ على ثباته قائلا بمقت:
_ مش شرط المهارة يا أستاذ ماهر، المبادئ هنا هي كل حاجة، ودي تماما إللي خليتني سيبت مكتبك واستقليت
ثم أردف بنبرة باردة يتعمد استفزازه:
_ بس واضح كدة أن في ناس خسروها بدليل الحادثة اللي حصلت لي وخسرتني أهم دليل كان هيوقع اللي بيدفع لك اتعابك وفرحان بفوزه ده!
ضيق حدقتيه بحقد شديد وقد اصطكت أسنانه ببعضهما غيظا قبل أن يتحرك إلى الخارج بخطوات متسارعة غاضبة تاركا ريان الذي زفر في ضيق يعلوه التعب، يسير نحو باب المحكمة ومنه إلى سيارته الصغيرة والعبوس مرتسم بمعالمه حيث ما كاد يفيق من محادثته الأخيرة مع رهف بالأمس واليوم خسر قضية من أهم القضايا التي لكانت لها دور هام بمستقبله المهني! يحاول جاهدا إلقاء همومه جانبا والتركيز بالطريق دون أن يستتبع شروده حادثا جسيما قد يقضي عليه! ما ان وصل إلى شقته حتى فتح الباب ثم دلف واغلقه ليستند يظهره عليه ثم يلقي الحقيبة جانبا، ثم يبتعد إلى الصالون حيث يجلس على الأريكة ثم يغمض عينيه بارهاق شاردا برهف التي كان يتمنى فعليا لو تطرق الباب الآن كي تأتيه بالغداء ثم لا تنوي الذهاب قبل التخفيف عنه وتذكيره بكون القادم أفضل، تمنى ويا ليت المطالب بالتمني! بعد مرور دقائق أنصت إلى صوت طرقة الباب ليقف عن مجلسه سريعا ثم يتجه إلى الباب وقد تقافزت نبضاته حيث أحس للحظة بكون الطارق رهف وامنيته ستتحقق الآن، وصدق تخمينه حيث وجدها ورأى طلتها الرقيقة ولكن كانت شاحبة والوجوم يعتلي ملامحها! فانتقل ببصره سريعا الى الحقائب الكبيرة المجانبة لها، وليس الغداء كما اعتقد! عاد بعينيه إليها ما أن بدأت بالحديث قائلة باقتضاب:
_ أخيرا لميت كل حاجتي من الشقة
ثم أخرجت مفتاحا وبعض الأوراق النقدية من داخل حقيبتها وناولتهم له قائلة تحت انظاره المصدومة:
_ اتفضل، ايجار الشهر ومفتاح الشقة، بعد إذنك
انفغر فاهه وتصلبت عروقه وتجمدت نبضاته حيث خالفت ظنه ولم تأت للترويح عنه بأجمل كلمات التشجيع كعادتها، ظل مسلطا بصره عليها وقد انعقد لسانه عن الكلام وعقله صار مشتتا لا يعرف ماهية القرار الذي لابد من اتخاذه في هذا الظرف المباغت! ينظر إليها بنظرات مبهمة فسرتها غاضبة! واعطته العذر لذلك حيث ما عرف لم يكن بقليل! قطع شروده صوت السائق الذي اقترب منهما موجها حديثه:
_ التاكسي جاهز يا آنسة
ارتدت نظارتها السوداء منقذة الدمع الذي يكاد يحرق عينيها في حين تقول بلهجة جامدة ظاهريا:
_ اوكي يالا
حمل السائق حقيبتين من الحقائب بينما اختطفت رهف نظرة واحدة إليه قبل ان تقول بهدوء:
_ مع السلامة
ثم اختفت عن ناظريه كنسمة الهواء العليل مخلفة وراءها اختناق شديد أصاب صدره برحيلها، يرجوها بقلبه أن تبقى وتؤنس وحدته الموحشة بموافقتها كشريكة لحياته، في حين يلجمه العقل عن الحديث وقد بات هذا أفضل الصواب!
ولكن لم ييأس هذا المتحكم بالخفقات بل كان كافيا لدفع صاحبه كي يهرول صوب النافذة المطلة على الشارع فيرمقها من خلف الزجاج متابعا إياها وهي ترقب دخول الحقائب ثم تتحرك لتحتل المقعد الخلفي، ما ان اغلقت الباب المفتوح زجاجه حتى رفعت بصرها إلى الأعلى فتلتقي نظراتهما للحظات قبل ان تطرق برأسها بحزن وقد خانتها عبراتها للخروج من جديد، ولم يكن حاله بأفضل بل شعر بفؤاده يختلج من مكانه راكضا خلف سيارة الأجرة التي تحركت بسرعة صوب وجهة لا يعلمها! وبقلوب مفطورة أعلن العاشقان الانفصال!

لقيطه و لكن بقلم/ اسراء عبدالقادرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن