قاربت الساعة الثامنة مساء واسدل الليل ستاره المظلم خافيا الشمس عن الأنظار مخلفا العتمة بالأرجاء، تلك الظلمة التي تعم الشوارع يكسر قتامتها أعمدة النور الصفراء المثبتة بالطرقات، وانتهى العمل بمكتب المحاماة الصغير الخاص به ليكون آخر من غادر بعدما تأكد من حفظ المقتنيات الخاصة به وإحكام الغلق عليها، وبينما يحمل حقيبته السمراء بيمناه ومعلقا المعطف الأسود المصمم لمهنته الدفاعية كان يعبر الطريق قاصدا الجهة الأخرى حتى صدمته إحدى السيارات المارة بسرعة جنونية جعلته يرتد إلى الجهة الأخرى فيصطدم رأسه بأسفلت الأرضية غارقا بدمائه الغائرة كما تطايرت حقيبته السمراء إلى مكان آخر، وبينما يجتمع حوله الناس في هلع محاولين الاطمئنان على صحته استغل أحدهم الوضع في سرقة الحقيبة الواقعة بعيدا عن مرأى الناس هاربا بها وقد تم المراد ونجحت المهمة المطلوب تنفيذها
وعلى الرغم من نقاء القلوب البشرية وصفائها إلا أن طيبتها لم تكن أبدا بالقدر الذي يدفع أحد الواقفين بالتبرع لإسعافه سريعا خشية أن يحصل المسعف على السيئة جراء الحسنة ويلقى على عاتقه عبء الاتهام بكونه قد شارك بمقتل هذا الشاب اليافع إن فقد الحياة لا قدر الله، فكان من الأفضل انتظار سيارة الاسعاف التي هاتفها أحدهم، حتى قدمت سيارة ذات طراز حديث ضغط سائقها على المكابح بإشارة من سيده الجالس في الخلف حيث جذب انتباه هذا الجمع من الناس ملتفين، خرج المالك الثري من السيارة واتجه إلى تجمع هذا العدد القليل مخترقا زحامهم محاولا التعرف على من وقع أسيرا للصراع بين الحياة والموت اليوم! مع مشاهدته للشاب فاقد الوعي المقاتل الذي يصارع لالتقاط الأنفاس والدماء مخضبة جسده وملابسه بقوة كما همهمات البشر من حوله بحسبي الله ونعم الوكيل، قال ملتفتا إلى الواقفين بجواره بتعحب:
_ هو ليه ما راحش المستشفى لحد دلوقتي؟!
_ في واحد اتصل عالاسعاف وهما على وصول اهو
قطب حاجبيه الكثين المخضب الشيب شعيراتهما بدهشة كبيرة حيث يردف مستنكرا:
_ هتسيبوا الولد ده بين الحيا والموت لحد ما تيجي الاسعاف! وافرض الطريق زحمة والإسعاف اتأخرت، الولد يضيع بسهولة كدة؟!
أجابه نفس الشخص قائلا بشئ من نفاذ الصبر:
_ والله ده اللي قدرنا عليه يا أخينا، عايز تساعد اكتر من كدة، اتفضل يالا
نطق يقول بنبرة مقتضبة واحتقار بديا على صوته ومعالمه:
_ معاك حق
ثم التفت إلى سائق السيارة الذي وقف خلفه امرا:
_ تعالى ساعدني ناخد الولد ده عالمستشفى يا عوض
أماء عوض برأسه طاعة وهو يقول:
_ حاضر يا راضي باشا
وبالفعل انتقل الشاب بمساعدة السائق وراضي والموجودين إلى السيارة الفارهة طابعا من دمائه على اريكتها الجلدية، في حين انطلق عوض بأقصى سرعته نحو أقرب مشفى خصوصي، حيث كانت الإسعاف ستقله بالطبع نحو مشفى حكومي وهو أبعد من الخاص في هذه المنطقة، وعلى الرغم من كونها المرة الأولى التي يتصرف بها راضي على هذا النحو وليس من عادته التوقف عن أمر ينوي القيام به لسبب عارض كرجل يحتضر على الطريق، إلا أنه شعر بوخزة من الانجذاب نحو هذا الشاب الجريح كما ضميره الذي صدح يشفق على حاله متالما كما الأحوال الأنانية التي غرست شراع المصلحة في المقام الأول وخافت من قرصنة الاتهام، كل تلك العوامل دفعته إلى إنقاذه والاطمئنان على تنفسه كل دقيقة حيث يشد من قبضته على عروق هذا الغائب عن الوعي ويقوم بتدليك كفه كل دقيقة كي لا تشعر النبضات بلدغة البرد المؤدية إلى الموت!
أنت تقرأ
لقيطه و لكن بقلم/ اسراء عبدالقادر
Romanceركعت أمام قدميه خانعة تهتف بصوتها الباكي في رجاء يكسوه الجزع: _ أبوس ايدك سامحني يا ريان، عارفة اني غلطت وكان المفروض أعرفك من الاول، أرجوك ماتعرفش حد ما كان جوابه سوى أن ظل على حاله صلدا يرمقها بمعالم قاسية متجهمة، لم يرق لحالها وهي ملاكه الصغير ال...