الجزء التاسع "العزلة"

119 4 3
                                    

قرائة ممتعة.. 🌹


كنت قد عزمت أمري بعد موت علاء الدين ألّا، أستمر في حياة القرصنة بعد الآن، وربما آن الأوان لأعود لوطني وربما قريتي، وأعيش هناك وأموت بهدوء، قررت ترك السفينة عند أول مرفأ. حين وصلت إلى طنجة أخبرت أصدقائي بقراري اعتزال حياة القرصنة، لم أعد أطيق حياة البحر.

قبل أن أغادر السفينة ناداني عنفرة وناولني كيسين مليئين بالذهب، قائلاً بأن هذه حصتي من الغنائم وحصة القبطان علاء الدين، رفضت ذلك بشدة وودعت أصدقائي بالدموع وغادرت السفينة إلى الأبد، محاولةً ألا ألتفت ورائي.

استأجرت غرفةً في الخان، وبقين هناك أفكر فيما سأفعله في حياتي، وقضيت الأيام والساعات لا أفعل شيئًا سوى المشي على شاطىء البحر دون هدىً، وكنت عندما أرى سفينةً على بعد أو راسيةً في الميناء أهرب من المكان وأهرب من الذكريات.

بعد شهرين من التجوال والتفكير قررت أن أعود لشخصيتي الحقيقية، فاشتريت ملابس نسائيةً واستأجرت بيتًا متواضعًا على شاطىء البحر وبقيت أفكر ماذا سأفعل. فكرت مرارًا في العودة إلى فلسطين، لكن في كل مرةٍ كانت الفكرة تبدو بعيدة، ليس فقط بسبب الرحلة طويلة، لكن لأنني لم أكن أعرف ماذا سأفعل هناك، وبدت العودة إلى القرية مخيفة، ذلك لأني خشيت حياة الوحدة والعزلة، ثم تساءلت إن كنت سأذهب إلى بيت شمس، لكن حتى هذه الفكرة بدت بعيدةً وغير واقعية، ولم يجعلني التفكير بأي من الخيارين أحس بالراحة، ماذا إذًا؟ فكرة مواصلة الترحال بدت أيضًا غير مقبولة، فقد تعبت من الرحيل وما زال قلبي مثخنًا بألم الفقد وذكريات البحر، وصار الإحساس والتعب يراودني كلما فكرت في السفر ومواجهة رحلةٍ أخرى. بعد فترةٍ طويلةٍ من التفكير المضني عزمت أمري وقررت أن أفتح حانوتًا للكتب وشغل ذلك تفكيري والكثير من وقتي، وبذلك فتحت أكبر حانوتٍ للكتب في طنجة، واخترت شابًا مخلصًا وأمينًا ليشرف على شؤونه، أما أنا فبقيت في بيتي أقضي معظم وقتي على الشرفة المطلة على البحر، أقرأ كل ما يصل إلى يدي من جديد الكتب.

بدأت أرتاح قليلاً في حياتي الهادئة، وعادت السكينة إلى نفسي وأخذت أتعافى ببطءٍ من جراحي ومن الألم، وبعد ثلاثة أعوامٍ تقريبًا وجدت الهدوء الذي أنشده وصارت طنجة مدينتي، وصارت شرفتي على البحر ملجئي ومكاني.

ذات يوم جاء الشاب الذي يعمل في الحانوت قائلاً أن هناك رجلاً  يريد أن يشتري معظم الكتب في الحانوت مرةً واحدة، استغربت كثيرًا، من يريد أن يشتري كل هذه الكتب! ولماذا؟ فقلت له إذا كان سيفتح حانوتًا للكتب فليذهب إلى مكانٍ آخر، لكن الشاب عاد في اليوم التالي مصحوبًا بالرجل، فأدخلته إلى الشرفة.

انحنى الرجل قائلاً: " أرجوكِ يا سيدتي، أريد أن أتحدث إليكِ "،فدعوته إلى الجلوس ورحت أتأمله، كان رجلاً عاديًا جدًا في مظهره، في منتصف الأربعينات بشعرٍ أسودَ كثيفٍ يشوبه بعض الشيب، وعينين سوداوين تشعّان في ذكاء، وأسنانٍ غاية البياض من الواضح انه يهتم بها جيدًا، هندامه يدل على سعة ثراءٍ وكان يجلس منتصب القامة ويفع رأسه بثقة. تنحنح قائلاً وبدا كلامه: " جئت لأزيل سوء الفهم الذي حصل يا سيدتي، فأنا لا أريد شراء الكتب لأفتح حانوتًا "، ونظر إلي كأنه يدرسني ثم تابع: " لقد سافرت كثيرًا يا سيدتي وزرت مدنًا وبلادًا كثيرة، وعشت مغامراتٍ لا نعد ولا تحصى، واجهت الموت أكثر من مرةٍ ولم أتزوج، التيلآن يا سيدتي الفاضلة  قد تعبت من السفر والترحال وأريد أن أستقر في جزيرتي، وأعيش بقية ايامي في هدوءٍ وعزلةٍ مع الكتب "، ثم سكت ومد يده إلى كأس الماء   التي أحضرتها الخادمة، وعندما انتهى من الشرب أبقى الكأس في يده ونظر إلي، ولما لم أجب تابع: " لقد وجدت في حانوتكم أفضل الكتب وأثمنها "، وسكت، ثم أعاد الكأس الفارغة إلى المنضدة.

رحلات عجيبة في البلاد الغريبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن