"هذه الكتابة لا علاقة لها بسني خصوصًا أن معظم القراء لا يعرف عني شيئًا. لهذا يزين لي أني قادر أن أكتب حرًا من أعوامي المنصرمة والآتي الممكن لا يعرفه إلا ربّك. نحن نجيء من ماضينا ولا نعرف إن كان لنا آتٍ. لا يقاس الإنسان بعدد ما مر عليه من أعوام. قد تكون فارغة أو الكثير منها كذلك. الإنسان ما استلم أو ما ارتضاه مما استلم وهو من حاضره المقبول أو المرفوض أو ما كان منه تحت السؤال. نحن حركة بحيث أننا لسنا مجرد ثمرة لما مضى علينا لكوننا ارتقاء او أقلّه تغيرًا.
لذلك لا يعني تقدم العمر شيئًا. لا هو نضج بالضرورة ولا هو اهتداء. ليس العمر بشيء. ما تملأه فيه من حضرة إنسانية هو كل الوجود لأن الزمن لا يأتيك، ضرورة، بمضمون. كان لك وعاء والوعاء يحمل كل شيء. أنت لست نتيجة مرور السنين عليك فقط. أنت حضور الحضرة الإلهية إن نزلت. وأنت بذا متطلّع إلى الآتيات أو إلى الباقيات الأبقى من الآتيات. أنت ما كنت وما تصير وتريد في الآن أن تصير. مرة أراد كبير في كنيستي منذ خمسين سنة أن يرد حجتي عليه بقوله لي خبرة سنوات عديدة. أجبته ليست الخبرة بشيء إذ قد تكون خبرة خير أو خبرة شر. وكل واحدة منها تعلّمك شيئا. لذلك لا تستطيع أن تفرض عليّ ما تعتبره علما جاءك من الخبرة. ربما كان الرجل على حق أن يعتبر جوابي له تحديا. ولكن من قال أن التحدي لا يحمل الحق أو من قال أن خبرة الشيوخ تحمل معها الحقيقة. ربما حملت معها المرارة. فالإنسان لا ينمو دائمًا رفيق الله أي عارفه. غالبًا ما يكبر ذواقًا لخطاياه ومستخلصًا فكره من تراكمها فيه. غير صحيح أن الكهولة أو الشيخوخة تأتينا دائمًا بالفضيلة. فكثيرًا ما حملت أتعابنا والفكر الآتي من الأتعاب أي من المرارة.
كثيرا ما أتاك العمر بالكآبة ولكن لك أن تقاوم لأن مسؤوليتك العطاء الذي يستحيل اقترانه بالحزن الشديد. المسؤول من عرف أن له غدًا يملأه بالحب لأنه وحده الخلاق في الزمان.
ليس في أية مرحلة من العمر مضمون روحي واحد. الطهارة والدنس ممكنان في أية حقبة من وجودنا الأرضي إلى أن يتبرأ الإنسان بالموت كما يقول الرسول. لذلك يصرّ آباؤنا على القول أن من أهم ما يعطاك في جهادك أن تذكر الموت كل يوم. أرادوا انك إن فعلت هذا لا تقوم على الخطيئة لأن الموت الذي تنتجه رهيب لديك.
تعلّم السن أو تفسد المعرفة التي تنسب إلى الشيوخ فيها سلام أو فيها اضطراب. كمّ الأعوام يعطي هذا أو ذاك. لا يأتيك النضج دائمًا من تقادم الزمان عليك. إنه في أعماقه هبة إلهيّة، فوق استواء العقل وأعلى ذرى السلام وهذا ينزل عليك من الرب. ومن هذه المقاربة قد يأتيك فتى أعلى قدرا في العقل من طاعن في السنّ. العقل العظيم ما ينزل عليك من ربّك المنشئ للعقول ومربيها.
غير أن أهمية السن عند الصالحين ما كانت في توبتهم وهذه غالبًا ما تتطلب مراس زمان لأن التوبة جرح بالغ ولا يستقر الإنسان فيها إلا إذا انتظر الموت أو ترجاه. ما منع الله هذا الترجي. أنه منع الحزن أمام ما نتوقعه إذ فتح لنا باب الرجاء الذي هو انفتاح على القيامة.
أنت تلميذ كل حقب العمر وإلا كنت غبيًا. لك خبرتان: خبرة خطاياك، وخبرة فضيلتك. وإذا وهبك الله نعمة من عنده تضرب خطيئتك بما اكتسبت من فضيلة أي إذا رأيت وجه الله أبهى شيء في الوجود، غير أن هذا تتعلّمه بالمراس، بالصبر على خطيئتك ورجاء خلاص منها. والصبر لا يعني الاستكانة أو الانهزام. إنه يعني شكرك لما استلمت من تعزيات الرب والبقاء عليها. ليس الصبر الدوام على كل حال. إنه فقط الديمومة مع النعمة لأن شريكك فيه هو الله ذاته.
من هذه الزاوية لا تعني السن شيئًا. قد تأتي بارتقاء روحي وقد تأتي بهبوط أو تخلّف أو فساد. تقادم الزمان لا يعطيك شيئًا بالضرورة ولا يحرمك شيئًا إن شئت المثابرة. الله وحده معطيك في كل ظرف من ظروف حياتك. وحياتك العميقة هي النعمة فيك. أنت تحيا إن كنت تستلم النعمة بشكر وتفهمها وتصر على البقاء فيها.
فإذا تجلّت الرؤى الإلهيّة فيك يسجّل الله لك عمرًا روحيا لا علاقة له بالسنين. فالله حضور وليس تعاقب أعوام إلى أن يزول تحكّم الزمان فيك وحكمتك النعمة. عندئذ، تسكن الأبديّة وأنت في حدود الزمان".
- المطران جورج خضر؛ ليس العمر بشيء