الفصل الأول

522 7 0
                                    


*****

ألمٌ يجتاز قلبها كمدية حادة النصل تنغرز بكل قوة محدثة فراغات كبيرة جميعها تنزف بذات الوقت، هل أصبح قلبها مضغة من لحم فاسد بجسد ميت عندما يهدر بها: "اتركيه وغادري المكان، لا تنقذي ذئباً بشرياً سيعود ويلتهمكِ ويبصقكِ بقايا مهترئة، لن تتجاوزي حدود اغترابك داخل ذاتك هذه المرة".
ثم يعود مجتزئاً الألم بصعوبة أكثر، تنظر نحو الموت الأسود البعيد الذي أخذ منها أكثر الناس.. كانت تحتاج إليهما.. والديها، بلحظة عاصفة تركاها وحيدة تعاني من اليتم والوحدة حتى مع وجود أحد يرعاها بحب ولكنه بالآخر يبقى غريباً ليس من لحمك.
نظرت لجفون هذا المدعي بين كفيها، وجدته يهذي: "أريد الخلاص، اتركيني أموت فهذا ما جئتِ من أجله.. اتركيني وخُذي مديتك ولن يتهمك أحداً". صرخت به فقد وصل توترها مداه: "اخرس! صوتكَ يوترني دعني أتصرف" عاد يجادلها: "يا حمقاء أليس هذا ما أردتِ الوصول إليه؟ اعلمي أنا أغيب فعلاً عن الوعي، بعد..." تنفس بصعوبة وأردف بخفوت يكاد يصل لمسامعها: "قليل أكون ذهــ..ـبـ" صرخت وهي تهز كتفه بقبضة يدها الحرة: "أفق لا تذهب يا أحمق، أفق! لا تتركني، لا.." كان جسدها الجاثي خلفه يرتجف على ركبتيها اللتين تهاوتا تحت ثقل جسدها المنتفض فلم تجد سوى الضغط أكثر على الجرح بأصابع استشرى بمفاصلها ألم حاد إلا أنها أرغمت أصابع يديه على الابتعاد بأصابع كفها الآخر وشفتاها لا يصمتان عن طلب النجدة!
أفلتت أصابعه ليجاهد أن تبتعد بكفها عن جيده الممزق ظناً منه أنها ستتركه، وجدها تضغط أكثر وتتخذ وضع الجلوس بجواره تريح رأسه على فخذها لتسيطر أكثر على حركة كفيه المستمرة لتبعد كفها عن موطن الألم.. حتى استسلم أخيراً ويتنفس براحة داخله شعور أن القدير أرسل له ملاكاً ليتسلق بروحه للسماء رغم كل أخطائه.

من قلب الظلام، ظهر لها عدد من الرجال ملابسهم توحي أنهم بحارة أو عمال من الذين يجلسون على الشاطيء المطل على مضيق البسفور في بؤرة القرن الذهبي الذي يمنح المدينة العتيقة ميزتها وسحرها فعلى جهة تقع قارة أوروبا والجهة الأخرى تحتلها قارة آسيا.. ارتبكت لوجودهم فنظراتهم كلها ترميها بشكّ غريب خشيت أن يتهموها بأنها قتلته أو أنها إحدى بنات الهوى المنتشرين على الساحل.. اقتادته هنا لتسرقه!
لا تعرف لِمَ نظراتهم أوحت لها بذلك، بصوت ملتاع خرج بصعوبة بعد أن رسخت فكرة بعقلها فأعلنت بعد أن وجدت مفتاح خلاصها بكذبة: "انجدوني خطيبي كان يريد فتح زجاجة خمر استعصت عليه بالمدية فطارت منه لتصيب عنقه" منهم مَنْ تَفَهّم موقفها بينما توجّس الباقون، ارتبكت وكادت تبكي: "أرجوكم احملوه معي للسيارة لأوصله لأول مشفى" همّوا بحمله بعدما وضع أحدهما أصابعه على العرق النابض بعنقه بتصريح: "إن نبضه منتظم وكأنه نائم!" أراد أن يشاهد الجرح فرفضت بشدة ووصل تصميمها لحد الصراخ: "لن أنزع يدي من فوق جرحه، ألا ترى الدماء أسفل؟!".
اعترض أحدهم: "إن خط الدماء قليل لا يحدث وفاة!!" وهاجمه آخر: "إن الجرح بالعنق قد يسبب الوفاة فلِمَ الجدل؟" فاستدرك أحدهم شيئاً هاماً: "انتظروا! لقد سمعتها تصرخ أنه انتحر وأنها قتلته، لن نذهب.. دعونا نبلغ الشرطة فقد نتورط جميعاً" شحبت بشرتها كميت ينتظر لفّه بأكفانه ليحكم عليها القدر بسبب تسرعها وتهورها الجانح رغم أنه يستحق كل ما كانت تنتويه ولكنها الآن بالوضع المتأزم تكاد تبكي، وبالفعل خرج صوتها ملون بالبكاء: "أنا لا أكذب، لقد كان يتوسلني أن نتزوج بسرعة وقد ابتعدت قليلاً لأجري مهاتفة وعندما عدت وجدته ينزف وفي يده مديتي لذا صرخت بهذا الذي سمعت" ازدردت ريقها بصعوبة بالغة ليصدمها الرجل ذاته: "ألم تكوني تقولين حاول فتح زجاجة خمر فكيف نصدق الحوار الجديد؟!" فأضافت بسرعة: "إنه ارتباك الموقف، أرجوكم ساعدوني لننقذه" نظرت لشابين ظهرا من العدم ولكنهما أبديا تعاطفاً معها عندما قال أحدهما: "تبدو صادقة لو كانت تريد قتله فلِمَ ستنقذه أو تصرخ لنتجمع" أنجدها هذا التبرير فتنفست براحة وصرخت باهتمام مبالغ فيه لتجعلهم يصدقونها: "أرجوكم احملوه معي للسيارة لننقذه بسرعة" هنا رفع الرجال أيديهم باستسلام حذر وقال أحدهم: "فليذهب هذين الشابين معك إن كانا يصدقان هذا الهراء!".
أبدى الشابان استعداداً وسأل أحدهما: "أين سيارتك؟" أشارت بيدها تجاهها فصرح الرجل المتشكك: "ما اسم خطيبك هذا؟!" أجابت على الفور بحيث لم يبقَ مجالاً للشكّ: "سيماف.. نعم نعم اسمه سيماف برصالي" مدّ أحدهما يده يبحث عن هويته ووجدها فعلاً داخل محفظته ثم دفعها للرجل فيقر ما فيها محركاً رأسه بموافقة، تنفست الصعداء عند هذا الوقت الذي أيقنت أنها لن تواجه المحاكم والتشهير، للآن علقت غصة بحلقها عندما أدركت أنه في الغالب ستكون هناك محاكمة وتشهير هو نفسه لن يتركها فحقارته تدل على ذلك، هي أكثر مَنْ يعرفه.. لا تعرف أتضحك لخلاصها أم تبكي للقادم، كل ما تخشاه هو كشف الماضي المهين السجين داخل بوابة صدرها... ستنبذ وبلا رحمة!

كوني عطري[سلسلة لا تعشقي أسمراً(3)]حيث تعيش القصص. اكتشف الآن