الجزء الخامس:

121 17 1
                                    

في فجر اليوم التالي خرجتُ على دراجتي الهوائية بحثًا عن والدي وإذ بمجموعةٍ من الناس متجمهرين بشكلٍ دائري وتعلو على وجوههم نظرات الشفقة و الأسى، رغم أنها ليست من عادتي التوقف عند التجمعات خصوصًا بحالة البلاد المتضاربة ولكنَّ شيئا ما أوحى لي بالتوقف و رؤية سبب التجمع، إقتربت بهدوء وسألت أحد الرجال المتجمهرين، فقال لي أن هنالك قناص يقتل مارًا كل يوم قبيل موعد الإفطار بداعي التسلية و السخرية وإستعراض قدرته على سلب الأرواح متى أراد حتى لو كنت صائمًا قبيل الأذان فذلك لن يشفع لك.
بدأت دقات قلبي تتزايد وجبيني يتصبب عرقًا و شعرتُ أن ألم العالم توقف في حلقي، كيف لشخصٍ أن يمتلك قلبًا كهذا؟ ومنذ متى أصبحت ارواحنا أداة تسلية و لهو؟ لربما هذا الرجل هو معيّن عائلته الوحيد والآن سوف يموتُ أطفاله جوعًا وأسى من بعده.
جررت نفسي مُكملاً طريقي الى مكان عمل والدي و رأسي مليء بالحزن على حالنا وعلى هذا الرجل وعائلته، ثم علا صوت أحد الواقفين يسأل عن اذا ما تعرّف على الضحية أحد حتى يخبروا عائلته فعم الصمتُ أرجاء المكان وفي تلك اللحظة أدركت أن شعوري لم يكن عبثيًا.
تركت دراجتي و توجهت صوب الجمهور أدافعهم بقلبي قبل جسمي و كلّي أرتجف، حتى بان لي وجه والدي وجسده ملقيٌ على الأرض وبدأت أسرح بخيالاتي، فرأيته مبتسمًا وعائدًا معه الحلوى لناكلها بعد الإفطار و يمشي بجسمه المشدود و القوي وجسمه يتضور جوعًا بعد يوم عملٍ شاق ولكنَّ فرحته بما يحمل لنا من حلوى كانت عزاءه الوحيد.
وبدأت أتساءل عن شعوره حين أصابته الرصاصة، هل كان حزينًا لانه سيفارق الحياة أم كان سعيدًا من تخلصه من أعباءها؟ وبلحظة تحولت مشاعر الحزن و الأسى و الخوف بداخلي الى قسوة، تذكرني بملامح إبن إمام المسجد التي رأيتها في يوم تشييع جثمان والده، كل ما أردته في تلك اللحظة هو البكاء، لطالما كنت طفلا باكيًا ولكن دموعي جفت و شعرت أن دماء جسمي تلونت وأصبحت زرقاء بالكامل.

لم نستطع أن نحزن على فراقِ والدنا طويلا فقوات المعارضة دخلت منطقتنا، و أُصدر لنا أمر بإخلاء المنطقة وأن قوات النظام سوف تدكها بالبراميل، حملنا ما نستطيع حمله و نزحنا الى منطقة مجاورة وكانت تلك آخر مرة أرى فيها منزلي الذي قضيت فيه طفولتي كلها و جمّعتُ فيه أفراحي و أحزاني، واستضافتنا عائلةٌ بسيطة لديها بيتٌ عتيق ومليء باثار الرصاص المضروب على جدرانه وكأنهُ تذكير بكل الأسى الذي مر على أهل البيت.

عشرة أعوامٍ في سن العشرينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن