مضت عدة أسابيع وجاء العيد ونحن ننتقل بين بيوت أهل المنطقة، كانت ملامح الجميع صامتة وكأن وجوههم قد انكوت بالشقاء، كان جيش النظام محيط بالمنطقة مانعًا دخول اي موادٍ تموينية وكأنه يريد منا الموت ببطء لكي يزيد علينا تعب إنتظار الموت، حينها تذكرت شعوري حين كانت المناطق بقربنا تُضرب بالبراميل و بعضٌ منها كان ينزل طائشًا ضمن حدود منطقتي و شعوري بالخوف حينها ولكن كان دفء وجودي بالبيت قرب أبي يخفف ثقل الخوف.
أما الآن نحن جالسون بلا طعام ولا دواء و اختفت ملامح أمي الضاحكة وأصبحت كانها صنمٌ صامت، وأختي بعد بضعة اسابيع من الحصار أصيبت بحمّى شديدة وجسدها الضعيف يعاني أمام المرض والجوع ونحن لا نملك من أمرنا شيء.
بعد أيام توفت أختي وهي ذي ثلاثة عشر عامًا، لم ترى من الحياة شيء، فقد بدأت الثورة حين كانت بعمر السابعة، وفي قرارة نفسي شعرتُ أنها ذهبت الى ربها سعيدة وخفيفة لا تحمل من الدنيا شيء، وكما والِدها توفّت وهي جائعة وزاهدة بكل ما تمتلكه الدنيا من خير.
مضت أشهر ٌونجونا أنا وأمي وكنا نتمنى الموت، وقد فَك الجيشُ الحصار عنّا فخرجتُ مع أمي الى بيت خالتي وتركت والدتي هُناك و أخبرتها أنه قد حان الأوان لكي أذهب لأقاتل بروحي مع ثوار البلاد، فعلى كل حال قد بلغت سن الخدمة العسكرية فكان أولى لي أن اموت مع من أؤمن أن الحق بجانبه.
كانت ردة فعل أمي هي الصمت! وكانها كانت صامتة طوال عمرها او أنها حتى بكماء منذ خُلقت، أمضيت عدة سنوات في ساحات القتال ولم تأتي الرصاصة التي طالما إنتظرتها، وفي يوم من الأيام حوصرنا بسبب نقص الذخيرة و خذلان من يمولنا بالسلاح، كنت واثقًا أن مصلحته معنا قد انتهت فما عاد من المهم تزويدنا بأي شيء و التكلف على حربٍ لن تحشو بطنهُ بالأموال.
وقعت في أسر الجيش ورُميتُ في إحدى الزنزانات، وكُل مدة ينقلوني من مكان لآخر وانتهى بي المطاف في غرفة مظلمة لا يوجد بها شعاع شمسٍ ولا حتى انعكاس لأي ضوءِ أمل، مضت العديد من الأيام و الأشهر وما عدت أدرك بأي يومٍ نحن او في اي ساعةٍ من اليوم حتى بسبب عتمة المكان و طول الأمد و التعذيب الذي ياتي من اللامكان.
كنت أسمع صراخ المعتقلين بجانبي و تمتماتهم وأحاديث بعض الحرس المسؤولين عنا، كنت أسمع بعد كل جلسة تعذيب تَقع علينا نحن المُعتقلين صوت أحد الاشخاص يغني و يتمتم بكلمات أم كلثوم مشابهة للتي كان والدي يغنيها، ثم سمعت مرة ً احد الحرس يضربه ويأمره أن يسكت وكان يُصر على متابعة الغناء، ثم سمعت الحرس يتناقشون في أمره، هذه السجين قد مضى على وجوده هنا اكثر من أربعين عامًا!!
كان الحرس لا يعلم ما إسمهُ حتى ولا سبب وجوده ولا اي معلومة واحدة عنه! سوى أنه يغني لكي لا يفقد الأمل ولكي يحافظ على هدوءه من بعد الألم كما كان ابي، ولمعت في ذهني إنه لربما كان زميل ابي فالسجن واليوم هو زميل إبنه.
أصبحت أُدندن معه في كل مرة وأشعر بنشوة ازعاج الحرس اللعين، واليوم وأنا أكتب قصتي بعد مرور عشرة سنين على انطلاق الثورة وانا مكبل في زاويتي المعتمة أدندن الأمل لبقية المعتقلين بعد أن توفي من علّمني الكلمات وكأنه قد ذهب مطمئنًا أن هناك من رفع عنه عناء مهمته و حمل عبئ الحزن عن البقية.
كنت أدرك أن مصيري معقود بإحتمالين إثنين، فإما أن أبقى هنا حتى ينتهي بي المطاف مغنيًا للمعتقلين حتى ياتي من يحمل عني مهمتي وأموت مُنتشيًا، او لربما اخرج بعد عدة سنين لكي أُنجب قيسًا آخر كما أنجبني والدي ليكمل عني مسيرة النضال الأبدية و لكي تبقى آمال هذا الشعب مربوطة بالحرية كما ارتبطت بالألم، وأن لا شيء أبدًا يستطيع إيقاف النضال حتى وإن إستشهدنا فهناك دائما جيلٌ جديد وثورة جديدة.
-كُتبت بقلبي.
- بتاريخ ٢٦/٥/٢٠٢٠
- لتذكير ضمائرنا بما آلت إليه الأمور.
أنت تقرأ
عشرة أعوامٍ في سن العشرين
Historia Cortaأما بعد، أيها العالم المظلم و أيتها الشموس المضيئة ويا أيها الحنينُ الكبير، أنا هنا اواجه جُلّ ما واجهته وبيدي حنيني وحبي و قلمي، لا اخشى كوني لا أحد وإني لا أخشى أحد. براسي المليء بالحذر أنا اليوم اكتب قلبي على قلب هذه الحياة وإني ما عُدت كما أنا...