Venice - Itali
ڤـينيسيا - إيطاليا
الساعة العاشرة صباحاً:تتجول هي بين أروقه حّيها الصغير بأكتاف مُهدلة؛ مضغت علكتها ذات مذاق النعناع و هي تفكر أن حتىٰ تأمل أركان شارعها الجميلة لم تبهجها كما المعتاد.. لقد فقدت كل طاقتها في صباح اليوم..؛ نظرت حولها لتتأكد مرةً أخرىٰ ، علها تُكَّذب مقلتيها؛ لكن لم يتغير شيئاً..
اليوم هو بداية فصل الخريف؛ اكثر فصل تمقته في حياتها.. و النظر إلىٰ أشجار حّيها التي ذبلت و سقطت بعد تحولها إلىٰ اللون الأصفر يُحزنها... شردت بأفكارها بحزن؛ يا ليت كل الفصول ربيعاً.
تأففت بضيق.. من جهة تغيير الفصول؛ و من جهة أخرىٰ مدير ذلك المقهىٰ الحقير.. يفكر برأسه الأحمق الشبية بالبطاطا أنها عندما تعمل لديه كـنادلة سيستطيع إهانتها دائما هكذا؛ ماذا تفعل! و هي أيضاً لديها مشاغل و من الممكن أن تتأخر يوماً واحداً..!ضحكت هي علىٰ أفكارها بخفوت.. حسناً هي تعترف، ليس يوماً واحداً.. و لكن هذا لا يعطيه الحق بأن يُهينها هكذا دائما.. لأنه لم يحصل علىٰ مُراده سيء النوايا معها بعد ردعها له بات يُسيء إليها دائماً و ينتظر اقل خطأ لها حتىٰ يطردها بضميرٍ مرتاح؛ لقد أنفجر بها اليوم للمرة التي لا تحصىٰ أمام الزبائن و أصبح لقبها السِّري بينهم 'عديمة الكرامة'...!
"اوووف"
زفرت بضيق و هي تتذكر تلك اللحظات الغبية؛ في جزءاً ما قابع في أعماقها.. تتلاعب بها الأفكار بأن تعود للعمل كـراقصة استعراضية؛ كان عملاً ممتع بحق و هي تمارس هوايتها المفضلة.. ترقص في أماكن ڤينيسيا العامة؛ فيتجمع حولها السياح من كل صوب.. مأخوذين بجمال شعرها الغجري و ملامحها المميزة و تناسق قدها مع حركاتها الراقصة؛ إبتسمت بغرور و هي تتذكر تلك اللحظات.. مضغت علكتها وهي تتلاعب بخصلات شعرها تفكر أنها طوال عُمرها كانت راقصة ممتازة..، ولكنها لم تعد كذلك.. هي لم تعد صغيرة و باتت في منتصف العشرينيات.. و لم يعد يليق بها أيضاً..!
و بينما هي تتجول بـلا مبالاة. سمعت صوت تلك الفتاة الصغيرة التي تهتف من خلفها بصوت طفولي باكي:
"أنا سأرضىٰ بما تقولينه يا أمي إذا تحول شَعري لِشَعر تلك الفتاة.. شَعْرها جميييل"
إرتسمت إبتسامة بريئة على ثغرها و هي تلتفت إليها.. لترىٰ تلك الفتاة التي يبدو أنها لم تتجاوز السادسة..ربما الخامسة، لا تدري!..كانت الطفلة ذات شعر مجعد كالأفارقة، و تجمعه بالطريقة التي تتطلق عليها دائماً ( كـالأناناسة ) و تتمسك بيد أمها و يعلو وجنتها الممتلئة عِبرات مُنهمرة..
جثت علىٰ ركبتيها لكي تكون بنفس مستوىٰ طولها.. و هي تتمسك بيدها الصغيرة هامسة بنبرة لطيفة:
"و لكن لا تقولي هكذا.. انا حقاً أحزن؛ كما انكِ تمتلكي شعر جميل بل جميل جداً.. يجب أن تشكري اللّٰه علّىٰ منحه لكِ هذا الشعر الجميل؛ و جعلكِ مميزة.. لا تشبهي أحد. "
كانت نبرتها صميمية و هي تحاول زرع الثقة في نفس تلك الفتاة الصغيرة، كانت الطفلة فاغرة فمها و هي تنظر إليها.. الطفلة تنظر إليها كما أنها وجدت أميرة من أميرات ديزني، مما جعلها حقاً تبتسم.. لم تكن ترتدي شيئاً ملفتاً او أنيقاً..بل كانت ملابسها أقل من عادية وهي ترتدي ذلك التيشرت البرتقالي و بنطالاً من الچينز.. و على حافة بنطالهاكانت تعقد سترة من نفس لون البنطال..
نظرت إليها الطفلة بإنبهار مأخوذة بتلك الفتاة الكبيرة ذات الشعر الطويل ؛ كانت تجمع الجزء الأمامي من شعرها في كعكة صغيرة و تركت البقية منسدلاً على كتفيها؛ همست لها بصوت طفولي به حشرجة من آثار بكائها:
" ما هو إسمك؟ "
نظرت اليها بإضطراب لثوانٍ ؛ قبل أن تهمس بصوت مؤكد كمن حسمت أمرها:
" روڤان، أُدعىٰ روڤان. "
نظرت إليها الطفلة و هي عاقدة حاجبيها بغرابة نتيجة سماعها لهذا الإسم الغريب؛ إلا أنها صفقت بجذل و هي تقل بحماس طفولي سريع :
"رائع، و أنا اسمي روزيلا. "
ضحكت روڤان و هي تردف بإبتسامة تُجاري حماسها:
" روزيلا تعني الورود الجميلة بالإيطالية؛ من سمّاكِ كان محقاً.. انتِ كالورود يا روزيلا و ربما أجمل شخص قد صادفته اليوم أيتها السيدة الصغيرة؛ لا تسمحي لأحد أن يبدد ثقتك بنفسك ولو قليلاً، أتفقنا؟"
أنهت روڤان حديثها فأومأت الطفلة رأسها و قد تصبغت وجنتاها بحمّرة الخجل مدت روڤان يدها في جيب بنطالها الخلفي.. لتخرج علكة كما التي تمضغها في فمها.. عرضت واحدة علي روزيلا ؛ التي القت نفسها بين ذراعي روڤان و الأخيرة أحتضنتها بسعادة.. بعد ثوانٍ من العناق البريء الذي أفاد قلب روڤان كثيراً؛ نهضت أخيرا من علىٰ الأرضية.. لترىٰ تلك السيدة التي كانت فد نست وجودها بالفعل.. يبدو أنها والدة روزيلا.. إبتسمت إليها تلك المرأة قبل أن تهمس بإمتنان صادق:
" أنا أحاول جاهدة لبث الثقة بها عبر إخبارها كم هي جميلة و لكنها لا تقتنع؛ و كون شخص غريب أخبرها بذلك يتحتم عليّ أن أشكرك. "
إبتسمت لها روڤان لتهمس قائلة :
"لا عليكِ."
نظرت إليها تلك المرأة لتردف بتردد:
"و انتِ ايضاً فتاة جميلة جداً؛ و لكن علىٰ الرغم من طلاقة حديثك في اللغة الإيطالية و لكنكِ لا تبدين من هنا، هل انتِ سائحة؟"
أردفت روڤان ببساطة:
"لست سائحة فقد ترعرعت في إيطاليا؛ و لكنني لست إيطالية بل تركية الأصل. "
-"لقد ظننت انكِ سائحة لكثرة السياح في مدينتنا؛ لقد أصبحت أقابل إناس من مختلف الجنسيات، ڤينيسيا أصبحت مزدحمة جداً و لكنها بلدتنا الجميلة..لا نستطيع بدونها؛ و أيضاً ملامحك تبدو لـاتينية ؛ سعيدة جدا بالتعرف عليكِ يا روڤان.. و لكن ما معنى روڤان؟ "
شعرت روڤان ببشائر الصداع من ثرثرة تلك السيدة؛ نظرت بطرف عينيها إلىٰ روزيلا الصغيرة حيث اغلقت عينيها من الملل.. كتمت ضحكتها و هي تقل بصوت جاهدت أن يكون رزيناً:
"روڤان إسم وردة تركية الأصل؛ و هناك من يقول أن معناة نسبة إلىٰ الروف و هو السكون او الروفة و الرحمة.. و هو إسم مشتق من رؤوف بمعنىٰ الرحيم. "
نظرت إليها المرأة بإنبهار لم تستطع كبحه ؛ ثُم همست و عيناها قد بدأت بتفصيلها:
"و أيضاً فتاة ذكية ليحفظك الرب؛ كنت اتأمل ان تكوني من نصيب ابني الأكبر و لكنني أرىٰ ذلك الخاتم الماسي الذي يشغل بنصرك الأيمن.. أصبح لدي فضول لمعرفة سعيد الحظ. "
نظرت إليها روڤان و قد بدأت حقاً تشعر بالرغبة الجدية للهرب و هي ترىٰ تلك المرأة التي تلبست شخصية تلك الخالات الواتي تراهم في التلفاز؛ نظرت إلىٰ معصم يدها و هي تقل بنبرة سريعة مُزيفة:
"يا الهي لقد تأخرت؛ انا مجبرة علىٰ الذهاب إلىٰ اللقاء. "
و ما إن نهت جملتها حتىٰ اطلقت العنان لقدميها و هي تركض هاربة.. تاركة تلك المرأة تنظر بحيرة منها.. فهي لم تلحظ وجود ساعة في يدها!..
-
بعد 10 دقائق من الركض المتواصل و قد وصلت إلىٰ منزلها أخيراً.. من أخبرها أن تتدخل و تصبح مصلحة إجتماعية اليوم!
هي ليست جدية لتلك الدرجة و عندما صارت ذلك كان سيتم تطبيقها فعلياً رغم أنها مخطوبة! ، ألتقطت روڤان أنفاسها اللاهثة و هي تحاول تهدئة دقات قلبها الثائرة؛ نظرت إلىٰ الأشجار الذابله حول باب منزلها بحزن.. تباً لهذا الفصل.. و بينما هي في غمرة حزنها و شتائمها أيضاً لاحظت تلك اليد التي وضعت علىٰ كتفها.. نظرت حولها بريبة لتهدأ قليلاً وهي ترىٰ تلك اليد المجعدة و خلفها سلڤادور او كما تحب أن تناديه "عمي سلڤادور"
كان ذلك الرجل المُسن ينظر إليها وهو عاقد حاجبيه يهتف بصرامة مزيفة:
"لماذا انتِ حزينة يا فتاة؟ هل ذلك الوغد قد فطْر قلبكِ؟ "
نظرت روڤان إلىٰ ملامحه التي تحمل تهديداً خفي و هي تضحك بشدة.. هو لم يحب ماثيو خطيبها وتظن أنه لن يحبه أبداً؛ يراه كالدخيل لأنه سيأخذ ابنة الحيّ كما يحب أن يناديها دائما..
إبتسمت روڤان إليه بسعادة لحظية وهي تقل بسرعة بين ضحكاتها:
"بالطبع لا، كيف سيحزنني وعمي المنقذ دائما معي؟ "
ضحك سلڤادور بشدة ،، حيث تجعدت عيونه و أردف بين قهقهته:
"أيتها المشاكسة ؛ عندما تناديني بالمنقذ تجعلي ثقتي بنفسي تبلغ عنان السماء.. إن كانت والدتي لا زالت حيّة كنت سأشكرها بكل تأكيد لتسميتها لي بـسلڤادور و إلا من كان سيناديني بمرادفات إسمي. "
ضحكت روڤان بشدة، قبل أن تسمعه يهمس بحزن و قد غارت عيناه قائلاً:
"لا زلت أتذكر كالأمس تلك المراهقة ذات ال ١٤ ربيعاً التي هربت من دار الرعاية هي و صديقتها و عملت كـراقصة استعراضية في الشوارع.. الحي سيفتقدك يا فتاة الحي.. "
نظرت إليه روڤان بحزن.. علىٰ الرغم من الدموع التي ترقرت في مقلتيها و لكن أرتسمت أجمل إبتسامة على محياها و هي تردف هامسه:
"لن أنسىٰ وقوفك بجانبي أنا و سابين ابداً.. انت كنت أباً لفتاة يتيمه الأبوين، انتَ من جعلني اكمل دراستي ؛ دمت سالماً يا عزيزي"
أنهت جملتها و هي تندفع إلىٰ أحضانه الدافئة و قد شعرت أنها ستختنق من كثرة التأثر؛ ربت سلڤادور عليها بحنان ابوي منبعث من داخله.. علاقته مع روڤان غريبة و مميزة، يتذكر كيف كان لا يطيق وجودها في البداية.. و لكنه قد عرض عليها المساعدة مجبراً هي و صديقتها بعد أن كانوا يقضوا لياليهم في الحدائق العامة؛ كيف كانت تشعله غضباً بـكم مقالبها و مزاحها الدائم.. و لكنه استسلم لغريزة الأبوة تجاهها؛ لذا تلك اللحظة بينهم كانت فريدة من نوعها.. ابعدها سلڤادور عنه و هو يهمس بصرامة مزيفة:
"لا تبكي يا فتاة.. و هل يظن ذلك الـ"ماثيو" أنه عندما يتزوجكِ سيأخذك من هذا الحي؟ ليذهب و يضرب رأسه في أقرب جدار إذاً "
ضحكت روڤان بين دموعها و هي تردف بعتاب ظهر في نبراتها:
"لا تفعل، الفتىٰ أصبح يخاف منك بالفعل. "
نظر إليها بغيظ لحظي قبل أن يسمعها تردف بحماس:
"اليوم هو اليوم الموعود؛ سأذهب انا و سابين لشراء فستان زفافي."
هتف سلڤاور بحدة:
"و صديقتك تلك!! اصبحت لا تخرج من المنزل إلا معكِ"
-"انت تعلم ظروفها يا عمي، ليهون اللّٰه عليها "
ربت سلڤادور على كتفها وهو يومأ برأسه بتفهم.. ودعته روڤان أخيراً وهي تهم للذهاب إلىٰ منزلها.. و لكن قاطع خطواتها صوت سلڤادور الهاتف من خلفها:
"اليوم أول أيام فصل الخريف يا روڤان.. حتماً أنتِ منزعجة و لكن أعلمي أن في كل زمن يوجد الخير كما يوجد الشر؛ الأمل موجود دائماً للدرجة التي تجعلنا نفكر أنه من الممكن تُزهر في الخريف أيضاً، لا نعلم.."
التفتت إليه روڤان.. شعرت بشعور إضطراب غريب؛ توترت للحظة قبل أن تبتسم بخفوت.. و دقات قلبها العنيفة تؤرقها!
--
و أخيراً بعد معاناتها في البحث عن مفتاح الباب قد أخرجته و دخلت منزلها بالنهاية؛ فكرت أن سابيين يبدو أنها نائمة، لا تعلم.. مضغت روڤان علكتها بملل.. اليوم كان درامياً بإمتياز، و كم تكره الدراما هي..قطع أفكارها صوت هاتفها المُعلن عن ورود رسالة جديدة لها.. فتحته بهدوء لترىٰ ماثيو قد كتب لها بالإيطالية:
" اليوم هو يومك؛ و اقل من أسبوع و سنصبح زوجين رسمياً..أحبكِ "
إبتسمت بشرود.. هو يتغنىٰ بحبه لها دائماً بينما هي لم تخبره ولو لمرة ؛ قطعت تلك الافكار الغبية من رأسها كما صنفتها.. ماثيو صديقها من دار الرعاية.. حكايتهم غريبة نوعاً ما و لكنها مميزة، وهي تحبه كثيرا.. حتماً ما تفعله هو الصواب.
تقدمت بساقها الرشيقة نحو غرفة صديقتها سابين؛ لم تفارقها يوماً لذا يتحتم عليها أن تزيل الشوق الذي سينتج بينهم، ظهرت لمعة الشقاوة في عينيها و هي تتقدم لفتح باب غرفتها بدون إذنها؛ الحركة التي تفعلها دائماً و تجعل سابين تكاد تصل إلىٰ حافة الجنون.. أمسكت مقبض الباب تفتحه بسرعة كمن يقبض علّىٰ أحدٍ ما متلبساً بجرمه المنشود هاتفة بصوت عالِ:
" ارغب في النميمة قليلاً، لن تصدقي من قابلـ... "
و لكن قطع سلسلة حديثها المتواصل بحماس رؤيتها لما تفعله سابين؛ كانت شبة تدفن رأسها بذلك الكيس مستنشقة ذلك المسحوق الأبيض السام؛ تزفر أنفاساً مرتعشة و هي تطلق أصواتاً مستمتعة بإنتشاء؛ لم تستطع روڤان منع شهقة تم إطلاقها و الصدمة تكاد تشل أطرافها.. أجفلت سابين من شهقة صديقتها و هي تحاول إخفاء ذلك الكيس، و لكن كان قد فات الأوان فروڤان قد رأته بالفعل حيث تقدمت إليها بحزم و الصدمة ما زالت مرتسمة علىٰ محياها.. التقطت ذلك الكيس الأبيض منها بقرف و هي تهتف صارخة:
"مرةً أخرىٰ يا سابين!! مرةً أخرىٰ بعد كل الألام التي تكبدتها من قبل تعودين لتعاطي هذا الشيء المُقرف!! هل تريدين العودة إلىٰ المصح مجدداً !"
كانت حدقتا سابين الزرقاء ترمقها بنظرة أخافتها.. إلىٰ جانب السواد المُتجمع حولها بشكل مرعب مما جعلها تفقد جمال لون عينيها المُميز.. و نظراتها مُعلقة بتّهديد أخاف قلب روڤان المرتعش رغما عنها.. إلا أنها طردت تلك الافكار من رأسها.. سلامة صديقتها أهم من اي شيء؛ حيث هتفت بصوتٍ عال حامل اللوم في نبرته:
"لماذا تفعلين هذا بنفسك يا إبنتي؟.. لماذا تندفعي لهذا الوحل بعد معاناتك منهُ لسنوات..! كنت قد ظننتُ أننا تجاوزناه أخيراً..لـمـاذا؟ "
هتفت بأخر كلمة بصوتٍ صارخ رغما عنها.. أجفلت المرتعشة سابين قليلاً؛ اغمضت سابين حدقتيها الزرقاويين تمنع هبوط غلالة من الدموع علىٰ وجنتها الشاحبة.. كانت سابين أقوىٰ من بضع قطرات دموع تنهمر أمامها.. حتّىٰ إن كانت أمام روڤان صديقة عُمرها..!
إلا أن روڤان لم ترحمها وهي تردف بصوت متحشرج من غصة دموع ظهرت في نبراتها.. و عيناها البُّنية ترمقها بنظرات متألمة هاتفة:
"طوال عُمري و أنا مُعجبة بشخصيتك القوية و المستقلة بطبعها منذ طفولتكِ.. بنظراتك الشامخة الممزوجة ببرود أنثوي مع القوة المكنونة بداخلكِ.. حتّىٰ عندما أنهرتي ووقعكِ ذلك الحقير بفخ ذاك المستنقع لم تنهاري، بل عزمتي علىٰ انتزاع ما كنتِ تتعاطيه من وريدك بإصرار علىٰ الحياة؛ و أنا بـدَّوري لم ألومكِ ابدا بل عكس ذلك، وقفت بجانبكِ و لم أتوقف عن دعمك لـأنه بالفعل لم يكن ذنبك؛ و لكن الآن.. لماذا تعودين له مرة أخرىٰ؟!! أنا كنت مخطئة، ظننتك أقوىٰ منه.. ظننتكِ قوية كفايةً يا أختي. "
أنهت حديثها بزفرة لاهثة و عيناها تنظر إليها بخيبة لم تستطع كبحها.. لحظات من الصمت مضت قبل أن ترفع سابين نظراتها إليها.. تهتف بشراسة:
" هل تظنينه كـالسكاكر التي كنتي تحاولي منعي عنها قديماً بسبب السكري..! ثُم أتتحدّثين عن القوة و انتِ لستِ شجاعة كفاية لتتقبلي حقيقة أن إسمكِ هو ريان ليس روڤان..! "
-"إياكِ ان تتطرقي إلىٰ هذا الموضوع؛ إياكِ"
نبرتها التحذيرية مع جمود عينيها جعل سابين تتراجع بالفعل.. نظرت إلىٰ حدقتيها التي نظرت للبعيد و شعور الندم بدأ يأكلها.. هي تعرف حساسية هذا الأمر عند صديقتها،، لم تستطع سابين منع نفسها وهي تنفجر في نحيب أشبه بعويل.. شعرت سابين لأول مرة أنها تتنفس أخيراً.. لم تشعر بذراعيها التان ضموا صديقتها المصدومة.. عانقتها هي الأخرىٰ باكية على حال صديقتها.. هما ليسوا أصدقاء الأمس، صداقتهم إستمرت لعشرين عاماً كامل، عُمر بأكمله معاً؛.. تتذكر سابين و هي بين ذراعي "ريان" كما تسميها في سرها، أن قد مضىٰ عشرون عاماً علىٰ لقائهم الأول.. ذلك الدار قد جمعهم و هما الأثنتان بنات ال ٤ سنوات... كانت الأفكار التي تعصف بذهن ريان لا تختلف عنها؛ تفكر أنهما منذُ عشرون عاماً تحديداً أول لقاء لهم قد بكت سابين في أحضانها بذلك الشكل تماماً.. كانت طفلة بريئة تبكي قساوة الحياة التي حطت علىٰ عُمرها الصغير بدون ذنب؛ قبل أن تتسلح ببرودها الجليدي الشهير الذي لم يفارقها يوماً.. و ريان كانت تعانقها بشدة بالقدر الذي يسمح لها ذراعيها..
قطع أفكارها إبتعاد سابين عنها قليلاً.. ما زالت تحت تأثير صدمتها أن صديقتها الجليدية كما تدعوها قد بكت الأن! سمعت صوت سابين الهامس بحشرجة بكاءً عنيف:
"روڤان.. انا لم اتقصد مضايقتك، لا تعلمين ما أكنه لكِ من مَعّزة حقاً..انتِ اختي يا فتاة! انتِ الشيء القيم الوحيد في حياتي."
إبتسمت لها و عيناها قد ترقرت الدموع بها من فرط التأثر.. إلا أنها قاطعت سابين قائلة بصوت هادئ :
"انتِ ايضاً اكثر الأشخاص قيمة في حياتي، لذا أنا اخاف عليكي.. أهاب خسارتك يا ابنتي.. انظري إلىٰ وجهك لقد ملأه الشحوب اثر ذاك الشيء اللعين.. لماذا فعلتِ هذا بنا يا أختي؟ ليلعنني اللّٰه الف مرة أنا الغبية لأنني أنشغلت بتجهيزات الزفاف و لم ألاحظ تصرفاتك الغريبة من قبل.. لم أرىٰ السواد الذي أحاط بعيناك الجميلة."
ردعتها سابين بسرعة قائلة:
" لا تلعني نفسك هكذا، ليس لكِ اي ذنب.. انا من تسببت لهذا بنفسي.. انا السبب في كل أذىٰ عشناه؛ و لكن لا تقلقي.. بعد عرسك سينتهي كل شيء. "
-"حقا يا سابين؟ هل ستذهبي إلىٰ المصح"
سألتها روڤان و هي تضحك بسعادة؛ لم تجيبها سابين.. إبتسمت فقط.. عانقت هي صديقتها بفرحة حقيقة.. أردفت سابين بعينان تنظر إلىٰ الفراغ.. لم تكن فرحه بقدرها.. سمعت روڤان صوت سابين الهامس بشرود قائلة:
"ستنتهي كل الألام؛ و ستصبحين سعيدة جداً.. و أنا سأنال ما أستحقه"
شدت روڤان من ضمها بسعادة.. و لكنها كانت غافلة عن نظرة سابين القاتمة بغرابة....
--
بعد نصف ساعة كاملة
أنتهت روڤان من لمساتها الأخيرة، تركت شعرها منسدلا فوق تيشرت قصير أظهر جزءاً من بطنها النحيف؛ هي نادراً ما تتأنق فـدوماً ما تختار ملابسها بعشوائية.. طوال تجهيزها و الأفكار تعصف بها جدياً أن تؤجل العرس لكي تكون بجانب صديقتها.. و لكنها تعلم كم سيزعجها هذا لذا تراجعت.. من المفترض أن تكون سابين قد أنتهت الآن من إرتداء ملابسها.. علىٰ اي حال.. ذهاب سابين معها سيُسعدها بالفعل.. جميع الفتيات يذهبن في هذا اليوم المميز مع أمهاتهن..، على كلٍ ،و هي أيضاً ستذهب مع صديقتها.. سيساندوا بعضهن معاً.. وكما يفعلوا دائماً... و ستفي سابين بوعد طفولتهم.
قطع أفكارها صوت سابين الهاتف:
"هيا يا حملي سنتأخر. "
خرجت روڤان لها و هي تضحك بشدة؛ لا تستطيع كتم ضحكتها عندما تسمع سابين تناديها بالمسميات التركية باللغة إلايطالية.. عبست سابين بشدة إلا أن روڤان قاطعتها و هي تردف:
"أصبحتي جميلة جداً يا ابنتي. "
إبتسمت سابين ؛ كانت ترتدي تنورة رمادية ضيقة و فوقها سترة كلاسيكية من نفس اللون.. و قد صبغت وجهها بمستحضرات التجميل الثقيلة حتىٰ يخفي ذلك الإرهاق البادي جلياً عليها.. ملابسهما ذات ذوق مختلف تماماً و لكن ما يجمعهما هو أرواحهم المرتبطة ببعضها بشدة.. أخرجت روڤان من جيبها علكة تعرضها علىٰ صديقتها الواقفة أمامها.. إلا أن سابين رفضت بأناقة.. همت روڤان للخروج من المنزل و لكن سابين وقفتها قائلة:
"أنتظري ثانية سأحضر حقيبتي. "
أومأت روڤان ببساطة منتظرة سابين التي ركضت سريعاً، مرت ثوانٍ لتخرج الأخيرة حامله حقيبتها الجلدية.. لمحت روڤان ذلك الشيء الظاهر بوضوح من حافة حقيبتها؛ فأردفت بفضول:
"تلك مذكراتك أليس كذلك؟ "
اومأت سابين برأسها و هي تقفل جرار حقيبتها بإحكام.. كان التوتر ظاهراً جلياً عليها فبدت حركاتها خرقاء.. لم تستطع روڤان كبح ما في جوفها فأردفت بإعتراض:
"تضعين لها قفلاً برقم سرّي و تأخذينها معكِ في كل مكان ايضاً!.. أقسم انني أريد معرفة سرّ غموضكِ يا فتاة. "
-"أعلمي دائماً أن سر الغموض ينبعث من الاشياء الأكثر قيمة في الحياة. "
كان هذا صوت سابين الواثق؛ اومأت روڤان برأسها بتفهم.. حسناً.. هي لم تفهم كثيراً..ليست علاقتها جيدة مع الفلسفة.
خرجت روڤانن المنزل.. و خلفها سابين.. بعد أن تأكدت من حملها في حقيبتها لشيء أخر مهم.. باتت لا تتركه معها كمذكراتها تماماً..
أنت تقرأ
هل يُزهر خريفي؟
Adventureتتوالىٰ الفصول؛ و يحين موعد فصل الخريف أخيراً.. من بين نواحي إيطاليا؛ تحديداً ڤينيسا.. عندما تتقاطع طرق تلك الراقصة المشعة بالحياة.. روڤان و قد كانت كما إسمها، مع الشخص المظلم الملطخ بالسوداوية.. ميران. هل يقع إنسان بحُب مختطفهُ؟ حكاية مستحيلة بقد...