البارت ١٢

76 9 0
                                    

✿ قصة من عالم البرزخ ✿
♡ رحلة البقاء 2 ♡
🔻 الجزء 12 🔻

أجابتني الصلاة وقد أنكرت علي كلامي، وأبطلت حجتي:
ــ أن القلب إذا تعلق بشيء وأحبه، يكون ذلك المحبوب قبلة لتوجه فكره حيثما كان، فان منعه مانع وشغله شاغل عن التفكير فيه، والعيش معه، عاد مرة أخرى ليطير شطر محبوبه بمجرد ارتفاع المانع وقلة الاشتغال، وأنت ياسعيد
قاطعتها لأقول لها:
ــ إن محبوبي لم يكن سوى الله.
ــ من أحب الله لم يتركه وهو في حضرته وبين يديه، أليس كذلك؟
ماذا بوسعي أن أقول لها؟ لزمت الصمت ولم أجبها بشيء، فقالت:
ــ كان حبك للدنيا أكبر من حبك لله، وقد أنكرت على نفسك ذلك. كنت إذا حان وقت الصلاة وكبرت تكبيرة الإحرام مستنفرا كل قواك لأن تكون مع الله، سرعان ما يطير قلبك إلى محبوبه وهو الدنيا، ليتعلق بها مرة أخرى.
وصلاة كهذه لم تقربك من مقام الحق تعالی(1)، ولم تزيل عن قلبك الظلمة والكدورة التي كنت تشكو منها.
توقفت قليلا لتعطيني فرصة التعليق على كلامها، فسألتها:
ــ إذن سبب فرار الفكر وطائر الخيال من الصلاة هو التعلق بالدنيا؟
ــ نعم.
ــ وماذا كان بوسعي أن أعمل كي أتخلص من حالة كهذه؟
ــ كان عليك أن تخلع شجرة حب الدنيا بجذورها من قلبك، بالتفكر والتدبر في حقارتها، وزوالها مقابل عظمة الآخرة وأبديتها، وكان عليك أن تعرف الله، وتستحضر عظمة من تقف بين يديه، وحقارة شأنك أمامه(2)، وكلما ازددت معرفة بالله، ازددت حبا له وتوجها إليه وتعلقا به، وكان تصديقك به صادقا، وتوحيدك له كاملا، أما علمت أن أول الدين معرفة الله، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده(3).
لم يكن من الهين تجاوز هذه العقبة، ولكني تجاوزتها بعد عناء كبير، ووقت طويل دام سنين وسنين، وبذلك تخلفت عن الكثير ممن كنت أحسبهم قرناء لي في الدرجة والمقام.
كنت ما أن أخرج من عقبة حتى أقع في أخرى، وكنت أتمنى العدم والفناء في كثير من مواقف تلك العقبات لشدتها، إذ كان يرافق كل منها عذاب روحي وجسدي، وإني كنت في عالم الدنيا لا أطيق الوقوف ساعة تحت أشعة وحرارة شمسها، فما يكون حالي عند الوقوف سنين في صحراء محرقة لا ظل فيها ولا ظليل! إذ لا يوجد منزل كمنازل الدنيا التجا إليه، ولا شجرة أستظل تحتها، ولا حتى خيمة ألوذ بها، وكلما وضعت قدمي على أرضها أحترقت فأرفعها لأضع الأخرى، وهكذا كان حال عموم مع أهل المحشر.
كان عملي الصالح يصاحبني أحيانا ويفارقني أخرى، وذات مرة سألته عن عقبة مساعدة الفقراء والمساكين، فتعجب من سؤالي وقال:
ــ ما الذي يذكرك بهذه العقبة؟ وما وجه سؤالك عنها من بين جميع العقبات الأخرى؟
ــ إني لم أحصي جميع العقبات، بل الكثير منها كنت غافلا عنها، وما كنت أتوقع يوما أني سألاقيها، ولكن عقبة مساعدة الفقراء والمساكين ذكرت في القران الكريم بقول الله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ  * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ).
كان يصغي إلى كلامي، وما أن انتهيت من تلاوة الآية حتى قال:
ــ لو تمعنت في هذه الآية، لرأيت أنها لم تذكر فقط عقبة مساعدة الفقراء، بل ذكرت عقبات أخرى وهي تخليص الناس من الرق والعبودية بمختلف أنواعها، والأخرى رعاية اليتيم وأداء حقوقه ابتداء من ذوي الأرحام، وانتهاء بعموم يتامى المجتمع، والأخرى مساعدة الفقراء والمساكين وسد حاجتهم من الطعام وغيره، ثم ذكرت عقبة الإيمان والصبر، والرأفة بالناس، حيث الآية التي بعدها تقول: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).
علمت أن العقبة القادمة هي عقبة صلة الرحم، فاستحضرت علاقتي بأقربائي وأهل بيتي، وقلت لعملي الصالح:
ــ إني كنت أصل رحمي، وكان لدي برنامج تفقد القريب والبعيد منهم، كنت أساعد المحتاج منهم، وأرشد من يلزم الرشاد. كنت لا أبخل عن مد يد العون إلى أي شخص يطلب العون مني...
قاطع كلامي بقوله:
ــ إذا كنت كذلك، فلماذا أراك قد اصطحبت الخوف معك، فهل كان يخالط أعمالك رياء وحب سمعة بينهم؟
ــ الله يشهد أني كنت مراقبا لنفسي في كل أعمالي هذه، وقد وبختها في كثير من مواقع صلة الرحم التي كنت أحس قد خالطها شيء مما تقوله، أو من الشعور بالمنة والتفضل عليهم. كنت أحادث نفسي وأصارعها، وفي آخر المطاف أقنعها بأن الفضل أولا وآخرا لله تعالى، فهو المتفضل علي برزقه أن مكنني من مد يد العون لهم، وهو الذي أعطاني العافية في الجوارح لعيادتهم وتفقدهم، وهو الذي وهبني العزة والكرامة بينهم، فأي فضل لي عليهم؟
ــ إذن لم تخبرني عن أي شيء يخيفك في تجاوز واقتحام هذه العقبة؟
ــ المشكلة أن الحساب هنا ليس كحساب عالم البرزخ، فهو دقيق للغاية، ولا يترك ذرة إلا وادخلها في المحاسبة والميزان، حتى دقائق الأفكار، وذرات خواطر القلوب، وهذا ما شاهدته في العقبات السابقة، إذ واجهت صغائر أعمال ما كنت أتصور يوما أن أحاسب عليها.
تقدمنا باسم الله لاقتحام عقبة صلة الرحم...
ولم أواجه بحمد الله مطبات تعرقل مسيري فيها، ورأيت الكثير من الخلق قد تخلفوا عني وحبسوا فيها.
أكملنا جميع متطلبات العبور، واقتربنا من الخروج منها و..
يا الهي، ماذا أرى؟! إني أرى والدتي، نعم هي بعينها! اقتربت منها أكثر فرأيتها جالسة تبكي، فقد بدا عليها أثر ارهاق وألم شديدين.
ناديتها باسمها فالتفتت نحوي، وفوجئت واضطربت كثيرا حينما رأتني واقفا أمامها. أحسست أن الخجل والحياء الشديدين قد خالجاها، وقد ترددت في جوابي، فناديتها مرة أخرى:
ــ أماه أنا سعيد، ابنك في الدنيا، هل تعرفيني؟
رفعت رأسها، وأجابتني بصوت ضعيف:
ــ كيف لا أعرفك ياسعيد.
ــ أراكِ شاحبة الوجه، سيئة الحال، فما الذي حدث؟

ما قصة ام سعيد وما سبب مكوثها بعقبة صلة الرحم.. هذا ما سنرويه لكم غدا..؟
فانتظرونا غدا مع الجزء 13 ان شاءالله تعالى من على #صفحة_منازل_الاخرة
ــــــــــــــــــــــــ
(1) مستدرك الوسائل/ج3/ص59: (عن النبي(ص) ان من الصلاة لما يقبل نصفها، وثلثها وربعها وخمسها إلى العشر، وان منها لما يلف كما يلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها وإنما لك من صلاتك ما اقبلت عليه بقلبك).
(2) يمكن لمن يعاني مشكلة هروب الذهن في الصلاة أن يراجع كتاب [ الأداب المعنوية للصلاة ] للسيد الخميني(ق)/الفصل 10 إلى 12، إذ شرح فيه وبأسلوبه العرفاني اللطيف اسباب هروب الذهن في الصلاة وكيفية علاجه.
(3) نهج البلاغة/خطبة1: (أول الدين معرفتة، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وکمال توحيده الإخلاص له،…).
.
🌹 يحق اخذها لكل من يرغب باعادة نسخ ونشر القصة ولكن لا نجيز حذف اسم #صفحة_منازل_الاخرة من القصة او الصورة 🌹

رحلة البقاء ٢حيث تعيش القصص. اكتشف الآن