البارت ١٥

72 8 0
                                    

✿ قصة من عالم البرزخ ✿
♡ رحلة البقاء 2 ♡
🔻 الجزء 15 🔻

لم يبق شيء من عملي، وكلامي، وحرکاتي، وفكري، إلا وحوسبتُ عليه، وفي جميع ذلك لم أكن أفكر أي تهمة وجهت إلي، لأني مطمئن بصحتها، كما أنه لا يوجد أي مجال لإنكارها. وفي مقابل ذلك كان خلاصة أعمالي الصالحة، وبعض من تلك الأعمال، تقف موقف الدفاع عني بمقدار قوتها التي وهبتها أنا لها في عالم الدنيا، وكان يؤخذ بدفاعها، بينما كنت أشاهد غيري ينكر بعض أعماله السيئة، ويصرخ ويتهم المحكمة بالكذب والزور، ولكن هيهات من دوام هذا الإنكار، إذ سرعان ما يُمنع من النطق ليشهد الشهود كما قال الله تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
انتهت العقبات وما كادت تنتهي لولا أعمالي الصالحة، وملكاتي الحسنة التي كنتُ أستغيثُ بها عند كل شدة وبلاء. أخبروني أن نتيجة كل هذه العقبات سوف تكون في آخرها، ولكني لا أرى شيئا يدل عليها، ترى أين أجدها؟
سألتُ أحد الملائكة عن هذا الأمر، فقال:
— (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).
قلتُ له متسائلا:
— إنني لا أرى كتابا حتى أقرأه، فأين هو؟
— إن نفسك هي كتاب أعمالك(1)، كما إنها سوف تظهر حین عبورك الصراط الذي يمر في وسط جهنم، وأنت الآن على مشارفه، ولا يتخلف أي إنسان عن عبوره، حتى الأنبياء والأولياء والمؤمنين، فضلا عن الكافرين والفاسقين، فأما من كان مصيره الجنة، فسوف يسلكه دون السقوط في الهاوية التي تحته، وأما من كان مصيره النار فسوف يقع ويمكث فيها(2).
التفتُ إلى عملي الصالح بعدما أصابتني
رجفة وخوف عظيم، ورحتُ أنظر إليه قلقا مضطربا، فقال:
— (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا).
عظم خوفي واضطرابي، وأمسكتُ بعملي الصالح ملتمسا اياه أن لا يتركني وحدي، فإني أرى الصراط حاد كالسيف، وأرى جهنم سوداء مظلمة تحته.
كنتُ أشاهد العديد قد ركبوه بأمل العبور إلى الضفة الأخرى، ولكن انحرفوا عنه، وسقطوا في جهنم التي كانت تلتهم كل من يسقط فيها، فتأكله نارها، وتغمره ظلمتها، حتى لا نرى له أثرا إلا صراخه وعويله، وبين فترة وأخرى ينادي المنادي لجهنم: (هَلِ امْتَلَأْتِ)، فتجيب وتقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)(3).
في مقابل ذلك كنتُ أشاهد أيضا أناسا تمكنوا من العبور إلى الضفة الأخرى، ولم يزلوا عن الصراط، رغم تفاوت فترات عبورهم وصعوبة نجاتهم، فكان البعض تلفحهم النار بعد مساسها لهم، وهم على الصراط، وبعضهم من تحرق أطرافهم فيصرخون، وبعضهم من يعبر الصراط بسرعة فلا يحس بتاتا بحرارة ما تحته.. وهكذا كان الحال لمن سبقوني، إذ كل حسب عمله ودرجته التي خرج بها من الحساب.
أقعدني الخوف والقلق العظيم الذي أحاط بي، فجلستُ أبكي بكاء شديدا، ورفعتُ يدي متضرعا إلى الله، داعيا إياه:
( ربي ها أنذا بين يديك خاضع ذليل، إن تعذبني فإني لذلك أهل وهو يا رب منك عدل، وإن تعفو عني فقديما شملني عفوك، وألبستني عافيتك، فأسألك اللهم بالمخزون من أسمائك، وبما وارته الحجب من بهائك، إلا رحمت هذه النفس الجزوعة، وهذه الرمة الهلوعة، التي لا تستطيع حر شمسك فكيف تستطيع حر نارك، والتي لا تستطيع صوت رعدك فكيف تستطيع صوت غضبك)(4).
جاني النداء من العلي الأعلى فكان معناه: (أي عبدي، إني خلقتُ الأشياء لأجلكَ وخلقتكَ لأجلي(5)، بمشئتي كنتَ أنتَ الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنتَ أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليكَ قويتَ على معصيتي، وبسوء ظنك بي قنطتَ من رحمتي، لم أدع تحذيرك، ولم أكلفك فوق طاقتك، ولم أحملك من الأمانة إلا ما قدرتَ عليه)(6).
ارتفع بكائي بعد سماعي خطاب الجليل لي، فناديته معترفا بكل ما اقترفتُ من المعاصي والذنوب أن ياربي: (أنا الصغير الذي ربيته، وأنا الجاهل الذي علمته، وأنا الضال الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الخائف الذي آمنته... أنا يارب الذي لم أستحيك في الخلاء، ولم أراقبك في الملاء، أنا صاحب الدواهي العظمي، أنا الذي على سيده اجتری، أنا الذي عصيتُ جبار السماء، أنا الذي أعطيتُ على معاصي الجليل الرشا، أنا الذي حين بُشرتُ بها خرجتُ إليها أسعى. أنا الذي أمهلتني فما ارعويتُ، وسترتَ علي فما استحييتُ، وعملتُ بالمعاصي فتعديتُ، وأسقطتني من عينك فما باليتُ)(7).
جاءني النداء مرة أخرى: عبدي ماذا تريد مني؟
— أي ربي أنت تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك. أريد النجاة من النار.
تأخر الجواب هذه المرة من العلي الأعلى، فخشيت أن يكون قد أعرض بوجهه الكريم عني، فناديته: (إلهي لم أعصك
حين عصيته وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي، وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي، وغرني سترك المرخى علي)(8).
ما أن أكملتُ مناجاتي حتى أطرق وجودي کله جواب الملك القدوس:ماذا كان جواب الرب الرحيم لسعيد وهل سينجو من النار.. هذا ما سنرويه لكم بعد غد..؟
فانتظرونا بعد غد مع الجزء 16 ان شاءالله تعالى من على #صفحة_منازل_الاخرة
ـــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار/64/ص128: (وقال بعض أرباب التأويل: كل ما يدركه الإنسان بحواسه يرتفع منه أثر إلى روحه، ويجتمع في صحيفة ذاته وخزانة مدركاته، وكذلك كل مثقال ذرة من خير أو شر يعمله يرى أثره مكتوبا ثمة، وسيما ما رسخت بسبب الهيئات وتأكدت به الصفات وصار خلقا وملكة فالأفاعيل المتكررة والعقائد الراسخة في النفوس وهي بمنزلة النقوش الكتابية في الألواح كما قال الله تعالى: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ)، وهذه الألواح النفسية يقال لها صحائف الأعمال…).
(2) تفسير الميزان/ج8/ص127: ( ثم الوارد في ظواهر الحديث أن الصراط جسر ممدود على النار يعبر منه أهل المحشر من موقفهم إلى الجنة، فينجي الله الذين آمنوا ويسقط الظالمون من الناس في النار...).
(3) ق/30: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).
(4) [ الصحيفة السجادية الكاملة ] للإمام زين العابدین(ع)/دعائه في الرهبة.
(5) الجواهر السنية في الأحاديث القدسية/ص57: (وجاء في الأحاديث القدسيات أن الله يقول: عبدي خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي، وهبتك الدنيا بالإحسان والأخرة بالإيمان).
(6) الجواهر السنية في الأحاديث القدسية/ص57: (عن النبي(ص) انه كان يروي حديثه عن الله عزوجل قال: قال الله يابن أدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبارادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبعصمتي وعفوي وعافيتي أديت إلي فرائضي، ... لم ادع تحذيرك ولم أخذك عند غرتك، ولم أكلفك فوق طاقتك ولم أحملك من الأمانة إلا ما قدرت عليه، رضيت منك لنفسي مارضيت لنفسك مني).
(7 و 8) مقتطف من دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام زين العابدين(ع).
.
🌹 يحق اخذها لكل من يرغب باعادة نسخ ونشر القصة ولكن لا نجيز حذف اسم #صفحة_منازل_الاخرة من القصة او الصورة 🌹

رحلة البقاء ٢حيث تعيش القصص. اكتشف الآن